رجل الدين في الأدب المصري -13.. ثروت أباظة
الخميس 10/سبتمبر/2015 - 09:06 م
طباعة
الشيخ سلطان عبدالصبور، في رواية "لقاء هناك" لثروت أباظة، نموذج لرجل الدين الأكثر شيوعًا في المجتمع المصري، فهو بعيد عن التنطع والتعصب والتطرف بعده عن الإسراف في العصرية والمبالغة في التساهل. يشغل وظيفة دينية إدارية في مكتب الوعظ والإرشاد بالأزهر، ويشارك من خلال عمله هذا في الإشراف على الدعاة والأئمة، لكنه لا يخفي انزعاجه واستياءه من قلة المحصول وانصراف الناس: "خطباء القسم لا تمتد ألسنتهم لغير آذان إن سمعت لا تعي، وإن وعت فما هي إلا تسليمة الصلاة حتى يقطعون ما بينهم وبين الله ويرجعون إلى إبليس الذي يصاحب نفوسهم ولايزال بها يغريها بكل ما يمكن من وسائل للإغراء، وإنها في يده كثيرة".
المناخ الموضوعي السيء المحبط لا يحول دون الشيخ سلطان والالتزام الذاتي الذي يعبر عن تدين صادق أصيل، فهو يصلي ويطيل الركوع والسجود، لا يهمل فريضة الفجر ولا تفوته السنن، ويحرص على أن يصلي ابنه عباس وابنته وهيبة. لا شيء يملكه خارج نطاق سلطته الأسرية، التي لا تخلو من العنت والاستبداد.
يتجلى ذلك بوضوح في طبيعة العلاقة مع ابنته، فهو يمنعها من استكمال دراستها، ولا يخفى الامتعاض المكتوم من شبابها وحيويتها. ينعكس سلوكه العنيف المحافظ على رؤية الفتاة لمكانته، وإيمانها بأن طاعته الكاملة واجب مقدس: "هي في البيت لا في المدرسة لأن أباها يريدها في البيت لا في المدرسة، وهي تقوم بالأعباء المنزلية لأن أباها يريد أن تقوم بالأعمال المنزلية، وهي تصلي لأن أباها يريد أن تصلي، وتصوم لأن أباها يقتلها إن أفطرت.. ولقد تخفى عن أبيها إفطارها في الأيام التي أمر الله بها أن تفطر فيها والتي لا يجوز لها فيها صيام. وكان يخيل إليها أن أباها لو شاء فقال لها صومي في هذه الأيام لصامت، ولأحست أن صيامها هذه الأيام شأنه شان صيامها لأيام الشهر الأخرى لا فارق بين الصيامين، فكلاهما لأبيها"!.
أهي طاعة الله أم الإذعان لإرادة الأب الجبار؟!. الالتزام الديني لوهيبة مردود إلى الخوف، وليس في تفكيرها ما ينبئ عن إيمان راسخ ينبع من إعمال العقل والاقتناع الصادق. مثل هذا القهر الأبوي يعبر عن خليط من الديني والاجتماعي، ولا ينهض دليلاً على التعصب والتطرف. الشيخ سلطان، خارج دائرة الأسرة، رجل معتدل بسيط، يخلو تاريخه من الخطايا المهلكة والأخطاء الجسيمة. الاستثناء الوحيد يتمثل في مغامرته القديمة مع صديقه الشيخ عبدالتواب، عندما كانا مجاورين في الأزهر، حيث السقوط في شركي المرأة والخمر ذات ليلة. يقوده الصديق إلى امرأة توصف بأنها "صديقة طلبة الأزهر الشريف وأنها ترضى بالقليل".
مغامرة الشباب الاستثنائية هي دافعه إلى التعجيل بالزواج من ابنة خالته زكية، لتبدأ حياة الاستقامة والتدين الصادق الذي لا تشوبه شائبة. لا متسع في حياته للتعصب وضيق الأفق، وليس أدل على ذلك من الصداقة الوثيقة التي تجمعه بالجار المسيحي مرقص أفندي عبدالملك. ينفقان الليالي في قهوة السيدة، يلعبان النرد ويتبادلان الحديث: "جمع بينهما المسكن المتقارب والأصدقاء المشتركون. وكان أطفال المنزلين يلعبون في مكان واحد فكانت ايفون بنت مرقص أفندي تلعب مع عباس ابن الشيخ سلطان".
الاختلاف الديني لا يمثل عائقًا أمام الصداقة المتينة بين الرجلين، وإدمان لعب النرد تخالطه شبهة القمار التي لا تغيب عن الشيخ المتدين، لكنه يتحايل على مخاوفه ليستمر في الهواية المحببة التي ينفق فيها وقتًا غير قليل: "كان المغلوب يدفع الطلبات، وكان سلطان يناقش نفسه في هذا الدفع، وكانت المناقشة تبدأ دائمًا كلما اضطر هو إلى الدفع، أليس هذا قمارًا؟! وتجيبه نفسه الغاضبة لأنه دفع: "إنه قمار". ولكن ما يلبث أن يتذكر الحديث الذي كان يقبل به أن يدفع له: إنما الأعمال بالنيات. وهو حين لعب لم يقصد القمار، كما أنهم الثلاثة أصدقاء، وأي واحد منهم يجوز أن يدفع عن الآخر بلا لعب وإنما اللعب تسلية.
وتقتنع نفس الشيخ سلطان أنه ليس قمارًا فيهدأ ضميره الديني وإن كان ضميره المادي يحاسبه على صرف النقود فيما لا يفيد، يظل ثائرًا غير هادئ".
صراع مكتوم بالغ الأهمية والدلالة بين الديني والدنيوي في أعماق سلطان، والمنطق الذي يرتضيه الشيخ في نهاية الأمر بمثابة التجسيد لطبيعة شخصيته التي تميل إلى المرونة وتجاوز الصغائر دون إسراف في التزمت. في هذا السياق، ينهض الرجل نموذجًا للوسطية التي لا تنجو من مؤثرات اجتماعية مضادة في العلاقة مع أفراد أسرته، تقوده إلى الشدة والقسوة.
الابن عباس هو المشكلة المزعجة في حياة الشيخ سلطان، والجانب الأكبر من الأزمة مردود إلى أسلوب التربية الذي يتسم بالكثير من الصرامة والقسوة، ومن ذلك أن الابن الشاب يتعرض للعقاب البدني الذي يترك أسوأ الأثر في بنائه النفسي. لا يملك عباس إلا أن يربط الأمر بالدين، وبخاصة أن أستاذ التربية الدينية في المدرستين الابتدائية والثانوية لا يقل في عنفه السادي عن الأب: "كان الشيخ مدبولي هذا أقسى أستاذ شفته في حياتي، قلب من حجر ويد من حديد، وكنت – ومازلت- أعجب أين الديانة في قلب هذا الرجل؟ وهل الديانة هي هذه القسوة وهذا الجبروت؟".
التمييز ليس واردًا بين الدين ورجل الدين، أبًا كان أم مدرسًا، والتساؤل الذي يطرحه عباس ينبئ عن انشغاله بهاجس إعادة النظر في رؤيته الدينية وليدة التلقين والقهر. كم يبدو سعيدًا منتشيًا وهو يعلن عن شماتته برفت الشيخ المدرس القاسي من وظيفته، متهمًا بالشذوذ الجنسي: "لقد ضُبط الشيخ وهو يقبل أحد التلاميذ"!.
إسراف المدرس الشيخ في العقاب العنيف غير المبرر، يقود إلى كراهية حصة الدين، ويمهد لطرح تساؤلات سلبية تطول الدين نفسه، وكذلك الأمر في رد فعل على القهر الذي يمارسه الأب الشيخ سلطان: "ما لبث إحساس بالغيظ أن ملأ نفسه من الصلاة جميعًا، وأقسم في نفسه لا يصلي إلا إذا أجبره أبوه على الصلاة".
مثل شقيقته وهيبة، المستسلمة المذعنة، لا يصلي عباس مدفوعًا بالإيمان والاقتناع والرغبة الذاتية المخلصة في أداء الفريضة، فهو مجبر مسكون بالخوف، والعبور من المراهقة إلى الشباب كفيل بتنامي نزعة التمرد والرفض: "يضربني؟.. يضربني أنا؟. لم يبق لي إلا بعض شهور وأصبح في الجامعة ويضربني!".
الاستنكار النظري، في مواجهة شقيقته وابنة خالته، يتحول سريعًا إلى سلوك عملي احتجاجي، يتوج الثورة الطويلة المكبوته، فإذا به يمتنع عن صلاة الجمعة، وعندئذ يبدأ شعور الأب بالهزيمة الموجعة التي تفوق خياله: "عاد الشيخ إلى البيت ثائرًا ثورة جامحة، ولقيته زوجته زكية وراحت تحاول تهدئته ولكن كيف له أن يهدأ؟.. حتى عباس. أما يكفيه هؤلاء الناس جميعًا يخرجون عن الدين ولا يحتفون بأوامره ونواهيه حتى يفجعه ابنه، فلذة كبده؟ ابنه الوحيد لا يصلي الجمعة!".
عند هذه المرحلة من التمرد الصريح، لا يجدي الأذى البدني المعتاد في إرهاب عباس، فهو يتحمل ضربات أبيه دون شكوى أو توسل: "ظل واقفًا مكانه لم يتحرك وترك العصا تنزل على كل مكان فيه وكأنما هي تضرب شيئًا لا أثر فيه من الحياة. وانتبه الشيخ إلى جمود ولده فجمدت العصا في يده وراح يحملق في عباس حائرًا بين الدهشة والغيظ. وقال عباس في جموده لايزال:
- أتريد شيئًا آخر يا أبي؟
وقال الشيخ سلطان في ثورة مشوبة بالدهش:
- اخرج.. اخرج ولا ترني وجهك.. اخرج يا كافر.. اخرج.. اخرج".
الهزيمة التي تطول الشيخ سلطان مزيج من الذاتي والموضوعي، ذلك أن صدمة إلحاد الابن الوحيد توجعه وتبرهن على فشله الذريع كأب، كما أنها تقوده إلى التفكير في الإخفاق الذي يبدو وثيق الصلة بوظيفته الدينية الرسمية في الأزهر، ولا يجد في محنته القاسية إلا صديقه المخلص مرقص ليبث همه وشكواه: "ماذا أقول يا مرقص؟.. ماذا أقول لهم؟.. أأقول إن ابني.. ابني أنا مفتش الوعظ والإرشاد ملحد؟.. كيف سينظر إليَّ زملائي؟ كيف أريهم وجهي؟.. أيبلغ بي الفشل في عملي إلى درجة أنني لا أستطيع أن أجعل .. ابني.. ابني الوحيد مؤمنًا؟.. يجب أن أستقيل.. وإذا استقلت ماذا نأكل وكيف نعيش؟.. بل كيف يعيش حضرة الملحد الذي يضمه بيتي؟".
الشيخ سلطان عبدالصبور أب فاشل، وهو بالضرورة داعية ديني مقصر في عمله. القهر لا يقود إلى إيمان حقيقي، والحياة أكثر تعقيدًا من مواجهتها بالمزيج المدمر الذي يعيش به: "السلبية واللامبالاة في الوظيفة الدعوية، والعنف بلا عقل أو حكمة في محيط الأسرة. لا شيء يملكه إلا مقاطعة عباس وإهماله، ويستعيد الملحد إيمانه من خلال زوجة قادرة على الاستيعاب والترويض، تموت بعد أن تداوي فشل الشيخ قليل الحيلة!.