الصفقات الحرام بين بريطانيا والإرهابيين.. تجارة الدين للحصول على النفط (الحلقة الثالثة)
الإثنين 05/أكتوبر/2015 - 07:42 م
طباعة
في الحلقتين السابقتين من عرضنا لكتاب التاريخ السري لتآمر بريطانيا مع الأصوليين قدمنا فكرة عامة عن الكتاب، وأهم ما يتعرض له ويكشفه من صفقات بريطانية مع حركات الإسلام السياسي في دول أفغانستان وإيران والعراق وليبيا والبلقان وسوريا وإندونيسيا ومصر وبلدان رابطة الدول المستقلة حديثاً، بل حتى في نيجيريا التي تآمرت بريطانيا على خلافة سوكوتو فيها في أوائل القرن العشرين مع متأسلمين هناك؛ وذلك لتحقيق مصالحها الاستراتيجية والسياسية والاقتصادية، وبداية التعاون بين بريطانيا والإخوان من خلال الوثائق التي رفعت عنها السرية، واعتمد عليها الكاتب مارك كورتيس الذي يقول شهدت سنوات الحرب نموًّا متواصلاً لحركة الإخوان المسلمين التي تطورت بقيادة حسن البنا إلى حركة جماهيرية متأسلمة، فقد أصبحت أكبر جمعية إسلامية في مصر وأقامت فروعاً لها في السودان الأردن وسوريا وفلسطين وشمال إفريقيا. ونادت جماعة الإخوان التي استهدفت إقامة دولة إسلامية تحت شعار "القرآن دستورنا" بالالتزام الصارم بأحكام الإسلام وقدمت بديلاً دينياً لكل من الحركات القومية العلمانية والأحزاب الشيوعية في مصر والشرق الأوسط – وهي قوى كانت قد طفقت تصبح بمثابة تحد رئيسي لقوة بريطانيا والولايات المتحدة في المنطقة.
وقد اعتبرت بريطانيا أن مصر مرتكز وضعها في الشرق الأوسط منذ أن أعلنت "الحماية" على هذا البلد في بداية الحرب العالمية الأولى. وسيطرت الشركات البريطانية على الاستثمار الأجنبي والحياة التجارية في البلاد، وأصبحت القاعدة العسكرية البريطانية في منطقة قناة السويس هي الأكبر في العالم عندما حان وقت الحرب العالمية الثانية، وفي هذه الحلقة نتعرض للإخوان في سوريا والأردن ومعركة بريطانيا للحصول على النفط.
الإخوان في سوريا
اتخذت الخطط الأنجلو أمريكية لدحر القومية العربية أشكالاً أخرى غير تعزيز مكانة السعوديين، ففي 1956-1957، كانت هناك على الأقل مؤامرتان أنجلو أمريكيتان خططتا للإطاحة بحكومتين في سوريا، وإن لم ينفذ أي منهما في نهاية الأمر، ويبين التخطيط الكامن وراءهما رغبة أنجلو أمريكية للعمل مع الإخوان المسلمين مرة ثانية.
وكانت المشكلة بالنسبة لبريطانيا في سوريا هي أنه عقب سلسلة من الانقلابات العسكرية منذ أواخر الأربعينيات، شمل تعاقب من الحكومات مسئولين من حزب البعث القومي، الذين كانوا يؤيدون سياسية عبد الناصر المعادية للإمبريالية، ويدعون لإقامة علاقة وثيقة مع موسكو. وفي فبراير 1956، لخصت إدارة المشرق في الخارجية البريطانية الوضع على نحو جامع فقالت: "إن الحكومات ]في سوريا[ غير مستقرة والجيش منخرط في السياسة بصورة عميقة وبتزايد خضوعه لليسار المتطرف، وهناك قدر كبير من التسلل الشيوعي. وقد أبرم السوريون توًّا صفقات أسلحة ضخمة مع الكتلة السوفيتية، وكل الأسباب تدعو للمحاولة وإنقاذ سوريا قبل أن يفوت الأوان".
لكن هذا التقرير نفسه يسلم بأن العمل المباشر من قبل بريطانيا سيكون خطراً، "بسبب ردود الفعل القومية العربية، والانعكاسات الدولية واحتمال ترسيخ هذه العناصر المعادية لنا في سوريا". ومن ثم، فضلت الخارجية تجنيد العراق، وهو "شقيق عربي" للقيام بمهمة، "كسب سوريا إلى صفنا."
وفي الشهر التالي، وافق مجلس الوزراء البريطاني على أنه ينبغي القيام بمحاولة جادة لتشكيل حكومة سورية أكثر موالاة للغرب "لشد سوريا إلى مسار اليمين"، كما قال مايكل رايت سفير بريطانيا في بغداد. وكان ما سمي بتوزيع مسئولية العملية على أطراف شتى الذي وضع بالتعاون مع واشنطن مؤامرة طموحة للقيام بانقلاب في دمشق. ومثلما وصف جورج يونج، نائب مدير هيئة المخابرات الخارجية البريطانية العملية، فقد كان من المقرر "أن تفتعل تركيا حوادث على الحدود، ويحث العراق قبائل الصحرا والحزب الشعبي السوري في لبنان على التسلل عبر الحدود؛ حتى تبرر حالة الفوضى الجماعية استخدام القوات العراقية الغازية". كذلك كان السير جون جاردنر السفير البريطاني في دمشق يريد تقديم الأموال لحزب التحرير العربي المعادي لليسار لإجهاض التحركات الرامية لإقامة اتحاد بين مصر وسوريا، وتمثلت سمة أساسية للمؤامرة البريطانية في "ضم سوريا- لدولة العراق"، كما قال سلوين للويد وزير الخارجية لأنطوني إيدن، وذكر له أنه ينبغي عدم القيام بهذه المحاولة الآن، لكن ربما نرغب في أن نمضي فيها قُدمًا في مرحلة لاحقة في ارتباط مع التطورات في الهلال الخصيب.
وإلى جانب مفاتحة القبائل الموجودة على الحدود بين سوريا والعراق في الموضوع انطوت خطة "توزيع المسئولية بين أطراف شتى"، على محاولة تجني الإخوان المسلمين لإثارة القلاقل في البلاد. وكان المسئولون البريطانيون مدركين تماماً للقوة السياسية المتصاعدة للإخوان المسلمين في ديسمبر 1954 أخبر جاردنر أنطونى إيدن، الذي كان وزيراً للخارجية حينذاك، بأنه "تم تنظيم مظاهرات فريدة في ضخامتها في سوريا بواسطة الإخوان المسلمين" جرت بعد تضييق مصر الخناق على هذه الحركة. ولاحظ مسئول آخر أن "الإخوان نجحوا في زمن قصير نسبياً في خلق مركز نفوذ لهم في سوريا"، لكن آثار ذلك لم تكن إيجابية بالنسبة لمصالح بريطانيا؛ حيث إن ذلك لن يؤدي "إلا إلى زيادة الاتجاهات القائمة إلى مشاعر القومية والمعادية للغرب." وهكذا، فإن بريطانيا كانت تتآمر سراً مرة ثانية، بما يماثل سياستها في إيران ومصر، مع القوى المتأسلمة لتحقيق هدف محدد، في حين تسلم بأنهم يلحقون الضرر بالمصالح البريطانية طويلة الأجل. وفي النهاية، تم دحر مخطط "توزيع المسئولية على أطراف شتى".. لكن سرعان ما استؤنف التآمر البريطاني على سوريا مع الأمريكيين بعد الغزو الفاشل لمصر، فبحلول شهر سبتمبر 1957 تداول اجتماع الفريق، عمل سري عقد في واشنطن، تقريراً بعنوان "الخطة الأثيرة". وتعززت أهمية هذا التخطيط عندما وقَّعت الحكومة السورية اتفاقية للمعونة الفنية مع الاتحاد السوفيتي وعينت شخصية موالية للشيوعيين رئيساً للأركان، ورغم الشكوك في الإخوان المسلمين، فقد انطوت هذه الخطة الجديدة مرة ثانية على استمالتهم وتحريضهم في دمشق، وكان انخراط الإخوان أمراً أساسياً في إثارة انتفاضة داخلية كمقدمة للإطاحة بالحكومة السورية، واستهدفت المؤامرة التي لقيت مساندة من أعلى المستويات في لندن، تسليح "شيع سياسية لها قدرات عسكرية وغير ذلك من أنواع العمل النشيط" – وهو ما يرجح أن يشمل الإخوان المسلمين.
واستهدفت الخطة الأثيرة التي نفذت بتنسيق مع هيئات المخابرات العراقية والأردنية واللبنانية، مرة ثانية إثارة القبائل على الحدود العراقية السرية وكذلك تحريض طائفة الدروز في جنوب البلاد، واستخدام عمل إدارة المخابرات السرية البريطانية من السوريين الذين يعملون داخل حزب البعث. ويرد في الخطة: "إن المخابرات المركزية وإدارة المخابرات السرية ستحاولان القيام بعملية تخريب صغيرة وحوادث مباغتة داخل سوريا، والعمل من خلال الصلات مع الأفراد". كذلك "ينبغي للمخابرات المركزية وإدارة المخابرات السرية أن يستخدما قدراتهما في الميدانين النفسي والعملي على حد سوا، لزيادة التوتر" في الأردن والعراق ولبنان، كما تضمنت الخطة سمة نموذجية أخرى لعمليات التهييج البريطانية هي تنفيذ عمليات تحمل أعلاماً زائفة للغير، يلقي اللوم عليها على كاهل أعداء رسميين، وهو ما ثبت نجاحه في إزاحة مصدق من السلطة في إيران. وهكذا، توفر حوادث الحدود المدبرة وصداماتها ذريعة للتدخل العسكري العراقي والأردني، وكان يتعين جعل سوريا "تبدو راعياً للمؤامرات وأعمال التريب والعنف الموجهة ضد الحكومات المجاورة". وكان هذا يعني القيام "بعمليات تتخذ شكل تخريب، ومؤامرات وطنية، ومختلف أنشطة استخدام القوة" ليلقى اللوم فيها على دمشق.
كذلك انطوت الخطة الأنجلو أمريكية على قيام هارولد ماكميلان رئيس الوزراء بالترخيص باغتيال مسئولين سوريين كبار. "وينبغي بذل جهد خاص للقضاء على أفراد أساسيين بعينهم"، كما ورد في الخطة التي تستطرد قائلة: "ينبغي إتمام عملية الإزاحة مبكراً في مجرى الانتفاضة والتدخل في ضوء الظروف القائمة في ذلك الوقت". وتم اعتماد رئيس مخابرات الجيش السوري، ورئيس الأركان السوري وزعيم الحزب الشيوعي كأهداف. ومع ذلك، فإن الخطة لم تمض قدماً في نهاية 1957، أساساً لأنه لم يكن إقناع جيران سوريا العرب باتخاذ الإجراءات اللازمة وتم التخلي عن الخطة في أوائل أكتوبر لصالح استراتيجية "الاحتواء إضافة لأعمال أخرى"، والتي انطوت على تجنيد الدول العربية الموالية للغرب ومجموعات المعارضة في المنفى لمواصلة الضغط على سوريا.
الإخوان في الأردن
وبحلول ذلك الوقت نشبت أزمة أخرى في بلد رئيسي آخر هو الأردن، وهنا أثبت الإخوان المسلمون أيضًا أنهم مفيدون. ففي أبريل 1957، نشب صدام وجهاً لوجه بين الملك حسين البالغ من العمر اثنين وعشرين عامًا– وكان هو عماد النفوذ الغربي في المنطقة منذ اغتيال أبيه عبد الله– وبين الحكومة الاشتراكية الموالية لعبد الناصر برئاسة سليمان النابلسي، التي كانت قد انتخبت بصورة حرة في شهر أكتوبر السابق. وكانت خطة النابلسي هي أن يصف الأردن إلى جانب سوريا ومصر، ومن ثم يحطم تبعية الأردن للغرب قديمة العهد. ورداً على ذلك، انخرطت وكالة المخابرات المركزية في بذر الشقاق بين النابلسي وحسين، وتشويه صورة النابلسي وعبد الناصر؛ بغية توفير ذريعة لحسين للعمل ضد رئيس وزرائه.
وفي شهر أبريل، أقال الملك الحكومة وعين حكومة دمية تحت سيطرته، حاظراً كل الأحزاب السياسية وطبقاً لقانون الأحكام العرفية. وقد أيدت انقلاب القصر هذا تلك التوليفة من القوى الرجعية والتي كانت مألوفة حينذاك في المنطقة: السعودية وبريطانيا وأمريكا- والإخوان المسلمون.
وساعدت وكالة المخابرات المركزية حسين في تخطيط انقلابه وبدأت في أعقاب ذلك تموله. وأرسل الزعيمان السعوديان فيصل وسعود قوة قوامهما 6000 جندى لمساندة الملك، وجرى نشرها في وادى الأردن ومنطقة العقبة، ووعدا حسين "بتأييد غير مشروط".
وأورد تشارلس جونستون السفير البريطاني في عمان ان الإخوان المسلمين في الأردن "لازالوا على ولائهم لجلالته"، ورغم اعتبار كل الاحزاب السياسية غير قانونية، سمح حسين للإخوان بمواصلة عملهم، ظاهرياً بسبب رسالتهم الدينية، لكن ذلك كان في واقع الأمر بسبب ان الملك وحلفاءه اعتبروهم أكفأ ثقل موازن لليساريين العلمانيين، وناشد دعاة الإخوان اتباعهم مساعدة السلطات في البحث عن مؤيدي الحكومة من الشيوعيين والقبض عليهم، فى حين يعتقد ان حسين زود الإخوان المسلمين في اريحا بالأسلحة، للمعارضة في إرهاب المعارضة اليسارية، وقد كتب جونستون فيما بعد "ان الإخوان المسلمين كانوا مفيدين للملك حسين في أبريل باعتبارهم يمثلون منظمة "الذراع القوية التي يمكن عند الاقتضاء إطلاقها على متطرفي الجناح اليساري في الشوارع".
وقدمت بريطانيا الدعم للحكومة الدمية الجديدة التي عينها حسين لكنها لم تكن تراودها أي أوهام بشأن طبيعتها. فقد أورد جونستون في تقريره لسلوين للويد وزير الخارجية ان النام "قمعي على نحو لا لبس فيه "وأنه يشبه كثيراً نظام فرانكو في إسبانيا، ويستند للقضاة والمفتين بدلاً من الكرادلة والاساقفة". بيد ان الامر الحاسم هو انه اتفق "ان النظام الأردني موال للبريطانيين":
وأرى ان مصالحنا تتحقق على نحو افضل بواسطة نظام استبدادي، يحافظ على الاستقرار والارتباط بالغرب بأكثر مما تحققه ديمقراطية طليقة العنان تندفع منحدرة إلى الشيوعية والفوضى. وهناك أيضا ما يتعين ذكره لصالح نظام قمعي صراحة مثل ذلك القائم حالياً في الأردن، مقارنة بالنفاق البغيض الذي تمثله "الانتخابات البرلمانية للعقيد عبد الناصر.
كان ذلك ملخصاً رائعاً لتفضيل بريطانيا لأنظمة القمع التي يساندها اليمين الإسلامي، بدلاً من حكومات أكثر شعبية أو ديمقراطية – وتلك سمة دائمة في سياسة بريطانيا في الماضي وفي الحاضر، تساعد في تفسير اللجوء المنتظم إلى التاطؤ مع القوى المتأسلمة، وقد جاء هذا التفضيل رغم معرفتها الكاملة ان انتخابات أكتوبر 1956 التي فاز بها النابلسى "كانت هي تقريباً أول انتخابات حرة في الأردن". كما كان البريطانيون يدركون تماماً ان الملك حسين لا يحظى بتأييد محلى كبير سوى من الإخوان المسلمين، وأنه دان بمنصبه على الدوام لاستعداد بريطانيا للمسارعة بنجدته، ففي أوائل 1957، كان انطوني إيدن يدرك انه "اذا سحبت حكومة صاحبة الجلالة تأييدها، فإن المسألة تصبح مسألة وقت فقط قبل ان تتداعى مملكة الأردن" – وكان ايدن بلا ريب يعنى بذلك تداعى النظام الموالي للغرب وليس البلد.
وبينما كان في مقدور الإخوان ان يفيدوا النظام الأردني، استمر المسئولون البريطانيون يعتبرونهم قوة معادية للغرب ومعادية للبريطانيين في الأساس، وهي وجهة النظر نفسها التي تبناها البريطانيون عن الإخوان في سوريا ومصر. وقد لاحظت السفارة البريطانية في عمان في أوائل 1957 ان نشاط الإخوان المتزايد "مثير للاضطراب" وان مطبوعاتهم الرسمية – الكفاح الإسلامي – تعتبر البريطانيين المسيحيين في الأردن الهدفين الرئيسيين للمنظمة. ولاحظ أحد المسئولين في وزارة الخارجية ان انتخابات أكتوبر 1956 دعمت المتطرفين في الإخوان وان هذا لا يبشر بالخير بالنسبة "لما بقى من النفوذ البريطاني في الأردن". وأورد تشارلس جونستون في تقرير له قدمه لوزارة الخارجية في فبراير 1957 أن "منظمة الإخوان المسلمين في الأردن تقودها مجموعة من المتعصبين المحليين ذوى العقلية الضيقة واتباعهم من الاميين في معظمهم"، لكن لديها ميزه أنها تعارض احزاب اليسار القوية"، وأنها مثلما تهاجم البريطانيين والأمريكيين، فإنها تهاجم الشيوعية.
كان البريطانيون يخافون من تنظيم الإخوان جيد التأسيس والمختبر، حيث انه خلال بضعة شهور من أزمة شهر أبريل، سحب تأييده لحكومة حسين الجديدة. وكان السبب في رأى السفير البريطاني هو ان الإخوان اعتبروا ان النظام "قد باع نفسه بالكامل للأمريكيين". وقال عن القطيعة بين التنظيم والنظام: "اعتقد ان الامر لا يقتضى ان تكون سبباً للقلق"، وأضاف قائلاً ان الإخوان "لن يكونوا هدفاً سهلاً للدعاية الروسية، السورية، أو حتى المصرية". وبهذا كان جونستون يقول انه على الرغم من ان الإخوان معادون للغرب، فإنهم يعادون أيضا الشيوعية والقومية، العدوين الأساسيين لبريطانيا.
وفى يوليو 1958 تلقى وضع بريطانيا في الشرق الأوسط لطمة أشد قسوة عندما أطاحت ثورة شعبية بالملكية في العراق التي حكمت منذ ان نصبها البريطانيون في 1921. وبعثت الثورة، التي بزغ منها اللواء عبد الكريم قاسم قائداً، موجات من الصدمات في أوصال لندن وواشنطن اللتين خشيتا من ان تطيح الحماسة الثورية بالملك حسين والملكين الآخرين المواليين للغرب. وفي عملية مشتركة، تم إرسال قوات بريطانية إلى الادن على وجه السرعة وإرسال قوات أمريكية إلى لبنان لدحر الخطر. وكتب سلوين للويد وزير الارجية ان التدخل البريطاني في الأردن "خم هدفاً مزدوجاً هو تقوية عزيمة الملك وإقامة رأس جسر لعمل محتمل يتم مستقبلاً في العراق حسب الاقتضاء"، وبذلك بين أن "غزو للعراق كان قيد النظر ايضاً". والواقع ان بريطانيا، كانت قد وضعت خططاً أيضاً لتدخل عسكري محتمل لمساندة الحكومات الموالية للغرب الاخرى في الكويت وليبيا والسودان. وأثارت دعوة الملك حسين لتدخل بريطاني في الأردن رد فعل حاسم من قبل الإخوان المسلمين في الأردن، الذين نظموا مظاهرات معادية للبريطانيين في عمان. و ورداً على ذلك، اعتقل نظام حسين عبد الرحمن خليفة زعيم الإخوان (وأطلق سراحه بعد ثلاثة أشهر) واستمر في سحق أنشطة المنظمة السياسية. وبينت هذه الواقعة أنه في حين كان يمكن للإخوان أن يفيدوا في توفير المساندة انظم رجعية موالية للبريطانيين في أوقات الأزمات، مثلما حدث في 1957، فإنهم شكلوا عائقاً فيما يتعلق بالتدخل الغربي في المنطقة.
رسالة الإسلام العالمية
طوال الستينيات من القرن الماضي، استمرت المواجهة في الشرق الأوسط تدور بين النظم الوطنية العلمانية، بقيادة مصر عبد الناصر، والملكيات الإسلامية بقيادة السعودية. وتصارع الجانبان على النفوذ في كل أرجاء المنطقة، ووجد النزاع تعبيراً صريحاً عنه في حرب اليمن الدموية التي استطالت زمناً فاستغرقت عقداً في معظمه. واتفاقاً مع استراتيجيتها على نحو نموذجي، ضمت بريطانيا قواتها إلى جانب السعوديين لدعم قوات إمام اليمن المخلوع ضد النظام الجمهوري الجديد الذي كان يؤيده عبد الناصر، مما فجر حرباً اهلية قتل فيها ما يصل إلى 200 ألف شخص. فقد كانت بريطانيا والسعودية تخشيان من أن يكون للمثل اليمني للقومية العلمانية تأثير التداعي، وينتشر في كل ارجاء الشرق الأوسط – ربما حتى إلى السعودية نفسها – مما ينزع موارد حيوية من النفط من السيطرة البريطانية والأمريكية ويضعها في أيدي حكومات شعبية، ويقوض بدرجة أكبر النفوذ الغربي في المنطقة.
كان الهان ضخماً، حيث كانت الشركات البريطانية تملك 40 في المائة من النفط في الخليج، مع وجود حصص كبيرة لها في اتحادات شركات في الكويت وإيران بصفة خاصة. كانت هناك شركتان بريطانيتان (بريتشبتروليوم وشل) من بين ثمانى شركات تسيطر على تجارة النفط العالمية مما يعنى أن المصالح هوايتهول لا تكمن في ضمان الحصول على النفط فحسب وانما أيضا في كفالة احتفاظ الشركات البريطانية بحصتها التجارية في هذه الصناعة. وكانت الحكومة تحقق ايرادات غير منظورة من إنتاج شركات النفط البريطانية ومبيعاتها في البلدان الاخرى وصلت إلى 800 مليون استرليني في خمس سنوات من 1961-1965 وبحلول1967، كانت قيمة الاصول المملوكة لهذه الشركات في الخارج تبلغ مليارى دولار . ولحماية هذه الايرادات، اتبعت الحكومة البريطانية سياسة صريحة لمعارضة الحكومات التي "تصادر أو تكتسب سيطرة مباشرة بأكثر مما يجب على استثمارات النفط الغربية"، في حين كان هدفها العريض يوصف بأنه "منع تدخل الحكومات في تجارة النفط بغير موجب".
وهكذا كان السعوديون والبريطانيون يخافون أيضاً من مجموعة قومية في اماكن اخرى في شبه الجزيرة العربية، خاصة عدن وعمان. وفي 1964 ردت بريطانيا على عصيان قومي نشب في اقليم ردفان في غربي عدن بقصف القوى المتمردة بالقنابل ورشوة زعماء القبائل المحليين. وفي العام التالي، هبت هوايتهول للدفاع عن سلطان عمان، الذي كان يرأس نظاماً ربما كان هو الأكثر قمعاً في الشرق الأوسط فيما بعد الحرب، حيث كان محظوراً لبس النظارات والحدي لأي شخص أكثر من خمس عشرة دقيقة، وحيث كانت موارد النفط مركزة في أيدي البريطانيين والسلطان، في حين ظل البلد متخلفاً بشكل كامل. وبدأت بريطانيا ما اصبح عملية سحق دامت عشر سنوات للمتمردين الذين كانت تساندهم مصر والذين أعلنوا تحرير اقليم ظفار في جنوبي عمان، وفي البد ساند السعوديون ثورة ظفار لتقويض سلطان عمان، بسبب نزاعات كانت جارية معه على الحدود، لكنهم سرعان ما انكفأوا على أعقابهم وأيدوا النظام.
وعلاوة على السيطرة على النفط، كانت المصالح البريطانية الكبيرة الأخرى في الشرق الأوسط تقضى بالحيلولة دون وقوع المنطقة تحت سيطرة "الشيوعية السوفيتية وغيرها من انواع الهيمنة المعادية" و"الحفاظ على احتياطات عربية ضخمة من النقد الأجنبي بالاسترلينى"، وشكلت النظم القومية تهديداً خاصاً لهذه الاولوية الأخيرة، فقد كان لبريطانيا مصلحة طويلة الاجل في ضمان ان تستثمر الدول التابعة لها ايراداتها في بريطانيا وفي نظامها المصرفى ، ففي 1961 على سبيل المثال، تبين السجلات أن المخططين البريطانيين – المتلهفين على ضمان ان تواصل الكويت الغنية بالنفط الاعتماد على "الحماية" البريطانية بعد ان كفلت استقلالها ذلك العام – افتعلوا تهديداً عراقياً لهذا البلد لتبرير التدخل العسكري البريطاني. واعترف المسئولون بأن الشركات البريطانية استطاعت تحقيق أرباح هائلة من نفط الكويت، ولكنها استفادت أيضا من "استعداد الكويت لقبول الاسترليني والاحتفاظ به". كانت الاستثمارات الكويتية في بريطانيا تعنى على حد كلمات مسئول الخارجية البريطانية في اعتراف له، انها "ستتفادى ضرورة تقاسم ثروتها النفطية مع جيرانها" – وتلك وجهه نظر تبين ان المسئولين البريطانيين كانوا يدركون تماماً تضارب أولوياتهم مع احتياجات الفقراء في الشرق الأوسط.
وفى البدء، حقق البريطانيون بعض النجاح في سحق القوى القومية في المنطقة، لكن مع انقضاء ذلك العقد اصبح الضعف البريطاني أشد وضوحاً. ففي نوفمبر 1967، اجبرت بريطانيا على انسحاب مذل من مستعمرة عدن، إذ طردتها قوات جبهة التحرير الوطني، التي كانت تقاتل من اجل الاستقلال بدعم مصري منذ 1963. وتواكب تزايد اعتماد بريطانيا على السعودية للإبقاء على الوضع الغربي القائم، ودحر التسلل الناصري إلى الجزيرة العربية والشرق الأوسط الأعرض، مع وقوع حدث داخل المملكة كانت له عواقب ضخمة على تقدم الإرهاب العالمي اللاحق. ففي بداية الستينيات، شرع السعوديون في نشر رسالة إسلامية عالمي، هي الإسلام "الوهابى"، وذلك لمد نطاق النفوذ السعودي وصد عبد الناصر، وهي عملية وسمت بداية انبعاث الإسلام السياسي اليميني المتطرف.
الرسالة ومناصروها البريطانيون:
عقب المؤتمر الإسلامي الدولي الذي عقده في مكة ولى العهد الأمير فيصل في 1962، أقام السعوديون رابطة العالم الإسلامي التي تديرها المؤسسة الدينية السعودية، وكانت ترسل مبعوثين ودعاية مطبوعة وتمو لبناء المساجد والجمعيات الإسلامية في شتى انحاء الارض. وكان كثيرون من أوائل من عينوا مستخدمين فيها من الإخوان المسلمين الذين كانوا قد وجدوا لهم ملاذاً في السعودية بعد ان طردهم من مصر عبد الناصر في الخمسينيات. وشمل اعضا الرابطة المؤسسون مفتى القدس الأكبر، الحاج أمين الحسينى، وسعيد رمضان المنظم الرئيسي لتنظيم الإخوان المسلمين الدولى الذي كتب دستور الرابطة، وعبد الأعلى المودودي مؤسس الجماعة الإسلامية الباكستانية. وورد في الإعلان الاول في الرابطة: "ان الذين يشوهون دعوة الإسلام تحت ستار القومية هم اشد الأعداء ضراوة بالنسبة للعرب الذين تتضافر أمجادهم مع امجاد الإسلام".
وتوهم فيصل الذي تولى الملك في السعودية في 1964، انه ملك الإسلام، وعند توليه السلطة رسمياً خاطب الأمة بعبارات جاء فيها: "ان الامر الاول الذي نريده منكم هو تقوى الله، والتشبث بتعاليم دينه وأحكام شريعته حيث ان هذا هو اسا عظمتنا، انه العامل الأساسى... لحكمنا وسر قوتنا". وأعلن فيصل ان هدف السياسة الخارجية هو "التحرك جنباً إلى جنب مع الأمم الإسلامية في كل امر قد يحقق للمسلمين عظمتهم ويعلى من شأنهم ومستواهم.
ولعبت بريطانيا دوراً مهماً في انقلاب القصر الذي أوصل فيصل إلى السلطة والذي اطاح شقيقة الأكبر، الملك سعود، الذي شغل العرش منذ 1953. فبحلول 1958 كان فيصل قد سيطر على إدارة الحكومة ومع مجيء 1963 استخدم هذا الموقع ليصبح القوة المهيمنة بين الاثنين. وفي ديسمبر من ذلك العام، أمر سعود بنشر قوات ومدافع خارج قصره في الرياض ليعيد تأكيد سلطته، واستمر التعادل المحتقن مع القوات الموالية لفيصل حتى 1964، عندما طالب سعود فيصل بأن يقيل اثنين من وزرائه ويحل محلهما اثنين من ابنا الملك. وقد الحرس الوطني دعماً حاسماً لفيصل، وهو التشكيل الذي بلغ قوامه 20 ألف جندى والمسئول عن حماية النظام والاسرة المالكة – وكان في الاصل يسمى "الجيش الابيض" أو الإخوان وكان قد فتح الجزيرة العربية بصورة دموية لصالح اين سعود، كان الامير عبدالله هو قائد الحرس الوطني آنذاك، وهو الملك السابق للسعودية، وكان هذا الحرس يتم تدريبه على أيدي بعثه عسكرية بريطانية صغيرة في البلاد بنا على طلب سعودي كان قد قدم في العام الفائت. وحينذاك تولى مستشاران بريطانيان للحرس الوطني، البريجادير تمبرل والكولونيل بروماج، وضع خطط بناء على رغبة عاجلة من عبدالله "لحماية فيصل"، و"حماية النظام"، و"احتلال نقطة معينة"، و"حجب محطة الاذاعة عن الجميع سوى الذين يؤيدهم الحرس الوطني". وكفلت هذه الخطط البريطانية الحماية الشخصية لفيصل، وساعدت في نقل السلطة اليه.
كان البريطانيون يرون ان سعود غير كفؤ ويعارض تطبيق الاصلاحات السياسية الضرورية لمنع الاطاحة ببيت آل سعود. وقد كتب فرانك برنشلى القائم بالأعمال في السفارة البريطانية في جدة يقول "ان رمال الزمن كانت تتهاوى باطراد من تحت اقدام النظام السعودي"، وكان العامل الأساسى هو الثورة الوطنية في اليمن المجاورة وتدخل القوات المصرية هناك، والذي تحدى سلطة السعودية في الجزيرة العربية. "كان فيصل يدرك انه يتعين عليه ان يجرى الاصلاحات سريعاً إذا اراد بقا النظام. نظراً للافتقار إلى المديرين والمدربين، فقد جاهد للتعجيل بتطوير النظام لتفادى نشوب ثورة".
وفى 29 مارس 1964، أصدرت القيادة الدينية في السعودية – العلماء – فتوى تقر نقل السلطة لفيصل استناداً للشريعة، وبعد يومين اجبر الملك سعود على التنازل عن العرش، ويلقى الدور المهم الذي لعبة البريطانيون والعلماء الوهابيون على حد سواء في التصديق على انقلاب القصر، الضوء على القوتين اللتين كان الحكام السعوديون يعتمدون عليهما، بالإضافة للأمريكيين.
ولاحظ كولن كرو السفير البريطاني في تأمله للانقلاب ان ما يمكن ان يكون خطيراً في الاجل الطويل "بشأن نقل السلطة" هو "أنه جاء بالعلماء إلى الصورة وانهم يمكن ان يتقاضوا ثمن تأييدهم". وقد ثبت ان تعليقاته تتسم ببعد النظر.
اقترح فيصل اقامة "تحالف الجامعة الإسلامية" بين البلدان الإسلامية الموالين للغرب، في محاولة لتعزيز سياسة بلاده الخارجية الإسلامية، وجاب تسعة دول مسلمة في 65-1966 للترويج للفكرة. وبنهاية العقد، كان فيصل قد ساعد في تشكيل منظمة المؤتمر الإسلامي، التي اقيمت في الرباط في 1969 بأمانة دائمة في جدة، وكان القصد منها هو تعزيز التضامن بين الدول الإسلامية. كما بدأت السعودية في اغداق الاموال على المركز الإسلامي في جنيف، الذي كان قد أنشأه سعيد رمضان في 1961، والذي عمل مقر قيادة دولي للإخوان المسلمين، واصبح مركزاً لعصب التنظيم ومكاناً لاجتماعات المتأسلمين من شتى أنحاء العالم. وخلال عقد الستينيات انتق الالاف من الإخوان المسلمين إلى أوروبا، إلى ألمانيا أساساً، وأنشأواً تدريجياً شبكة واسعة جيدة التنظيم من الجوامع والمؤسسات الخيرية والمنظمات الإسلامية، آملين ان يكسبوا مزيداً من عقول المسلمين وافئدتهم. وظل رمضان نفسه في سويسرا حتى موته في 1955. كما جاء الإخوان المسلمين إلى السعودية من كل انحا الشرق الأوسط خلال الستينيات. وكان من بينهم لاجئ فلسطيني اسمه عبد الله عزام تولى باعتباره محاضراً في جامعة جدة، تدريس الشاب أسامة بن لادن، وكان في أوائل الثمانينات في صدارة الجهاد ضد السوفيت في أفغانستان. وكان هناك محاضر آخر في جدة، هو المصري محمد قطب شقيق المنظر الايديولوجى الإسلامي سيد قطب الذي كانت قواه تخور حينذاك في أحد سجون عبد الناصر. وساعد هذا الاندماج بين علماء الدين المحليين الذين تربوا على التقاليد الوهابية السعودية والجهاد الدولي للإخوان المسلمين المنفيين في توفير اسا فكرى وايديولوجى للتطور اللاحق للقاعدة.
والرسالة الإسلامية للسعودية والتوسع الجولى للإخوان المسلمين امران مهمان بصفة خاصة في ضوء الشبهات قديمة العهد ان سعيد رمضان ربما كانت قد جندته وكاله المخابرات المركزية واذارة المخابرات السرية الخارجية البريطانية في الخمسينيات. كان نظام عبد الناصر قد جرد رمضان غيابياً من جنسيته في سبتمبر 1954، لتوزيعه كتيبات تدافع عن الإخوان المسلمين. وتشير بعض المصادر إلى ان وكالة المخابرات المركزية حولت عشرات الملايين من الدولارات لسعيد رمضان في الستينيات، وتبين الوثائق التي رفعت عنها السرية في المحفوظات السويسرية من 1967 أن السلطات السويسرية كانت تشمل بعين العطف آراء رمضان المعادية للشيوعية، وانه كان من بين "امور اخرى، عميلاً للمخابرا ت الانجليزية والأمريكية". وقد أوردت الصحيفة السويسرية لوتامب في 2006 أن ملف رمضان شمل عدة وثائق تشى إلى صلاته "بادارات مصرية غربية بعينها". وتورد وثائق المخابرات الألمانية من الستينيات ان الولايات المتحدة ساعدت في اقناع الأردن بتزويد رمضان بجواز سفر ان الجانب الأمريكي "سيقدم نفقاته".
كما عمل السعوديون، خاصة بعد وصول فيصل إلى السلطة في 1964 مع الإخوان المسلمين ومولهم للقيام بعمليات اغتيال كثيرة لعبد الناصر. وانطوت هذه احياناً على تجنيد ضباط من القوات الخاصة لعبد الناصر وتهريب السلاح إلى "الجهاز السرى" للإخوان. ورداً على زيادة مساندة السعودية للإخوان وغيرهم من المنظمات المتأسلمة، شنت مصر عبد لناصر موجه جديده من القمع ضد المنظمة. ففي أواخر 1965، ادعت إدارة المخابرات المصرية أنها كشفت "مؤامرة" ضخمة على النظام للقيام بعمليات اغتيال وتفجير قنابل، اسهمت السعودية بدعمها. وأعقبت ذلك مطاردات للإخوان المسلمين وتضييق وحشى عليهم قامت بها قوات الامن. وبعد محاكمة للمتآمرين المزعومين في ديسمبر 1965، حكم على سعيد رمضان غيابياً بالأشغال الشاقة مدى الحياة وحكم على عدد من قادة الإخوان المسلمين بالإعدام وتم شنقهم في العام التالي. وكان من بينهم سيد قطب، الذي وفر عمله "معالم الطريق" الذي كتب في السجن، بياناً رسمياً بأهداف الانشطة السياسية للإخوان، كما اصبح متناً أساسياً ألهم فيما بعد أيمن الظاهري، نائب أسامة بن لادن في القاعدة، الذي كان قد انضم للإخوان المسلمين في مصر في سن الرابعة عشرة في ذلك الوقت. وفيما بعد كتب الظواهري أن دعوة سيد قطب للإخلاص لوحدانية الله والتسليم بسلطانه وحده وسيادته كانت هي الشرارة التي وحدت الثورة الإسلامية ضد أعداء الإسلام في الداخل والخارج". وبعد ان اجبر الإخوان المسلمون على العمل السرى تحت الارض، لم يعاودوا الظهور إلا بعد وفاة عبد الناصر في 1970.
ورغم التضييق الشديد، فقد استمر المسئولون البريطانيون يعترفون بالإخوان المسلمين باعتبارهم قوة يحسب حسابها. فقد اعتبرهم "التهديد الأساسى للنظام من الخارج" ولاحظوا "ان الإسلام التقليدي هو القوة الوحيدة التي يخشاها عبد الناصر، بخلاف القوات المسلحة". وكتب أحد مسئولي الخارجية يقول "ان قدرتهم الهدامة على التآمر والاغتيال تجعلهم قوة يتعين علينا جميعاً (وعبد الناصر) ان نراقبها بيقظة تامة"، وكتب مسئول آخر هو بيتر انوين "اعتقد ان إجراءاته ]التضييق[ لا بد وان تزيد من جاذبية الرابطة الإسلامية ]رابطة العالم الإسلامي[، وان تزيد الدعم المقدم للدعاية التي تتهمه بأنه ليس مسلماً حقيقياً وانما اداه ماركسية".
كانت بريطانيا لا تزال تخشى من أن تتمكن مصر عبد الناصر من توحيد العالم العربي – أو على الأقل جزء كبير منه – صد بريطانيا. وفي ضوء هذا، كتبت وزارة الخارجية في 1964 أنه "مما يتفق مع مصالحنا السياسية والاقتصادية ان يكون هناك توازن في القوة في الشرق الأوسط العربي وليس تركز القوة في القاهرة". ولاحظت ان علاقات شاه إيران الموالى للغرب مع الأردن والسعودية "لعبت دوراً في الحفاظ على توازن القوة، وينبغى تشجيعها"، وهو ما يعكس رغبة هوايهول في الإبقاء على المنطقة منقسمة.
واستمر المخططون البريطانيون يكنون الرغبة في "ازاحة عبد الناصر من المنطقة "، وبحثوا امكان التدخل العسكري المباشر في مصر. بيد انهم في نهاية المطاف، استبعدوا الأمرين معاً، حيث انه "ليس هناك مبرر كبير للاعتقاد بأن خليفة عبد الناصر سيكون أكثر اعتدالاً وأكثر اذعاناً للنفوذ الغربي" – وربما كان ذلك صدى للقلق السابق من ان الإخوان المسلمين ربما كانوا أكثر عداء للبريطانيين من عبد الناصر . كما تم رفض التدخل العسكري حيث انه سيثير اضطراباً ويزيد التسلل الشيوعى في المنطقة، وإضافة لذلك، "لايستطيع أحد ان يبق سياسة للشرق الأوسط تتعارض على نحو جاد مع سياسة الأمريكيين وهم لن يوافقوا على اى من هذين المسارين." وخلصت وزارة الخارجية في سبتمبر 1965 إلى انه "يتعين علينا ان نتعايش مع نظام عبد الناصر".
وفى الوقت نفسه، استمرت بريطانيا والولايات المتحدة في تعزيز مكانة السعودية باعتبارها نقيضاً للقومية العربية، ونظراً بعين العطف لسياستها الخارجية القائمة على الجامعة الإسلامية. وساعدت وكالة المخابرات المركزية في إدارة أمن الداخلي في السعودية في حين كان سيد قطب قد اعترف صراحة قبل إعدامه بأنه خلال هذه الفترة كانت أمريكا "تصنع الإسلام" وقد اخبر ديفيد لونج، وهو مسئول متقاعد من وزارة الخارجية الأمريكية وخبير في الامور السعودية والخليج، المؤلف روبرت دريفيوس أننا:
قوينا دعم فيصل للإخوان المسلمين والجامعة الإسلامية، لأننا نحتاج اليهما لمواجهة أي حلفاء قد تستطيع موسكو ان تفتنهم... اننا لا نعتبر الجامعة الإسلامية تهديدا استراتيجياً. هناك اشخاص سيئون يقترفون اعملاً سيئة بالنسبة للأشخاص الذين يقفون في اليسار، وبالنسبة لعبد الناصر. انهم يحاربون مشايعى الاشتراكية. ومن ثم، فاننا لا نعتبر الجامعة الإسلامية تهديداً.
واستمر المسئولون البريطانيون يعربون عن تفضيلهم نظاماً سعودياً يقوم على اصولية إسلامية بدلاً من نظام قومي عربي، حيث ان "تغيير نظام يصف بلداً بإيراداته الضخمة من النفط إلى جانب الدول الجمهورية العربية سوف يقلب توازن القوة بأسره في الشرق الأوسط".
وكانت اليمن هي التي توافقت فيها مصالح بريطانيا والسعودية السياسية لأقصى حد، وذلك في دعمهما لقوى دينية محافظة في وجه تهديد قومي عربي. ففي سبتمبر 1962 خلع انقلاب شعبي قامت به قوى جمهورية بقيادة العقيد عبدالله السلال، الامام محمد البدر الذي ظل في السلطة أسبوعاً بعد وفاة والده الحاكم الإقطاعى المستبد الذي حكم منذ 1948. ولجأت قوات الامام للجبال وأعلنت العصيان. وقدمت هوايهول الأسلحة والنقود للمتمردين وهي تعترف بأن المستفيدين من ذلك لا يستطيعون كسب الحرب، ولكن كما قال رئيس الوزراء ماكميلان للرئيس كيندى "انه لن يضيرنا كثيراً ان ينشغل النظام اليمني الجديد بشئونه الداخلية خلال السنوات القليلة القادمة" – كما حدث في إندونيسيا قبل بضع سنوات. لقد اعتبرت بريطانيا أن نوعاً كهذا يوفر "قيمة مفيدة لإزعاج العدو".
ومع إرسال عبد الناصر لآلاف الجنود من القوات المصرية لليمن للدفاع عن النظام الديد، اصبح النزاع عملياً حرباً ضد مصر بالوكالة عن السعودية وبريطانيا. واعترف المسئولون البريطانيون بأن حكومة اليمن الجديدة تحظى بالشعبية وانها أكثر ديمقراطية من حمك الامام الاستبدادي، ومن ثم ليس هناك شك كبير بشأن الجانب الذي ينبغي أن تؤيده هوايتهول. وكانت كل من السعودية وبريطانيا تخشيان من ان ينتشر الحكم الجمهوري الشعبي للمشيخات الاقطاعية الأخرى التي يسيطر عليها البريطانيون في الجزيرة العربية، وبصفة خاصة عدن حيث أخذت حرب العصابات التي يساندها المصريون تطرح البريطانيين ارضاً. لكن لجنة المخابرات المشتركة قضت بأن الثورة اليمنية قد جعلت موقف النظام في السعودية نفسها "محفوفاً بالمخاطر بدرجة أكبر، وإذا حدثت ثورة ناجحة في السعودية، فان النظام الجديد ربما يكون موالياً للمصريين، في البدء على الاقل، ويتعرض الترتيب القائم في دول الخليج لضغط شيد". ولم تنته الحرب الا عندما قطع السعوديون، وهم الممول الرئيسي للمتمردين، معونتهم في 1969 وتم توقيع معاهدة انشا اليمن الشمالية.
وقد دعمت بريطانيا سياسة السعودية "الإسلامية" الخارجية، ففي 1965، كان مورجان مان السفير البريطاني في السعودية مقتنعاً بأنه في مواجهة تهديد عبد الناصر، كان على النظام ان يعزز مكانته على المسرح العالمي: "فليس من المجدي كثيراً ان يظهر فضائله في الداخل فحسب، لكن عليه ان يدعم منزلته في الخارج ايضاً". ومن الواضح ان مان فهم السياسة السعودية، ووصفها بأن هدفها الاول هو "دعم التضامن الإسلامي". وكتب يقول ان فيصل "يحاول استخدام الإسلام مغناطيساً مضاداً لموضوع الوحدة العربية الذي طرحه عبد الناصر، وانه يأمل في اقامة "كتلة" إسلامية تسحب تدريجياً قسماً كبيراً من الذين احتشدوا أفواجاً حول راية عبد الناصر".
وأيد المسئولون البريطانيون مبادرة فيصل لعقد مؤتمر إسلامي بأن انووا عن الانظار. وقابل جورج طومسون وزير الخارجية في حكومة هارولد ويلسون، الامير السعودي سلطان في فبراير 1966 لمناقشة الفكرة. ويذكر التسجيل الخاص بالمقابلة أنه:
ليس حلفاً... لكنه مؤتمر، سيفيد حتماً في معارضة الشيوعية والدفاع عن العقيدة، وقد قال السيد طومسون عندما سؤل عن موقف حكومة صاحبة الجلالة انهم يرجعون له النجاح، حيث انه يرمى لتحقيق الاستقرار، لكنه يعتقد ان افضل خدمة يمكن لنا ان نقدمها هي الا نقول شيئاً، حيث ان اى بيان بأن بريطانيا تؤيد هذه التطورات قمين بأن يدمر آفاقه، ووافق سلطان .
وبعد شهر، كتب س. تى. برانب المسئول بوزارة الخارجية في سياق حاجة بريطانيا إلى احتواء عبد الناصر، انه "أياً كان ما نعتقده بشأن التطورات التي قد تدعم مصالحنا في الشرق الأوسط، يظل من الصحيح بصفة عامة أنه كلما قل اعتبارنا متصلين بها، تزيد فرص نجاحها. ويصدق هذا بصورة خاصة على ما يبدو على التحرك الأخير لإقامة تحالف إسلامي".
وفيما يتعلق برابطة العالم الإسلامي، فقد لاحظ ويلى موريس الذي تولى منصب السفير في اغسطس 1968، "انها في الواقع اداه لتقوية الاهتمام بالسياسة الخارجية ودعمها". ولاحظ ان استخدام فيصل للإسلام لم يقصد به اقامة رابطة ليس لها هيئة معينة على النطاق العالمي لكن توسيع العلاقات السعودية مع البلدان على غرار إيران وباكستان وتركيا والعراق "فى مجموعة من الدول أكثر تجانساً مع رؤية فيصل للعالم ". لكن موريس أضاف ان فرص ثيامها ليست كبيرة.
كان البريطانيون يفهمون جدياً طبيعة النظام السعودي . ففي يونيو 1963 لخص السير كولن كرو السفير البريطاني موقف البلاد بعبارات قاطعة، فقال ان السعودية:
تهيمن عليها نحلة من الإسلام تتسم بالتزمت المتطرف وغير المتسامح، ولكن تحكمها أسرة مالكة لا يفوقها في تبذيرها وتبديدها سوى عددها، وليس لديها اية مدونة قوانين عصرية وضقاؤها الجنائى هو بربرية العصور الوسطى. ولا يوجد حتى ادعاء بوجود مؤسسات ديمقراطية. وعلى الرغم من الغاء العبودية، فان العبيد ما زالوا موجودين. والفساد متفش. والبلد يجلس على قمة بعض من أكثر موارد النفط ثرا في العالم ويحظى بدخل هائل غير مكتسب بالعمل، يتم تبديده في المتع والقصور والسيارات الكاديلاك.
ومع ذلك، فقد أولت بريطانيا مساندة غير مشروطة للحكام السعوديين، وتمثلت سياستها في "الحفاظ على بقاء النظام الحالى في السعودية مهم للمصالح الغربية في الشرق الأوسط"، كما كتب السفير كرو، ذاكراً واحدة من ملاحظات كثيرة ممائلة. وقد لاحظت رسالة الوداع التي كتبها كرو باعتباره سفيراً في أكتوبر 1964 أن النظام "يعد مرضياً كما يمكن ان نتوقع وأنه كان صديقاً للغرب ومعادياً للشيوعية بقوة"، في حين ان "أهدافه، فيما عدا ما يتعلق بواحة البوريمى، هي أهداف نتعاطف معها" (والإشارة هنا إلى واحة البوريمى، وهي ارض كانت موضع نزاع بين السعوديين وحليفى بريطانيا، عمان وأبى ظبى).
وتغيرت علاقات بريطانيا مع السعودية قليلاً عند الانتقال من المحافظين إلى العمال في انتخابات 1964. كانت الصفوة السياسية البريطانية موحدة في مساندتها للأسرة الحاكمة السعودية، لأنها تراها قوة لتحقيق "الاستقرار" الإقليمى، والامداد بالنفط ومشتريا مهما للأسلحة البريطانية. اتسم الوفاق الودى البريطاني السعودي بإبرام اتفاق ضخم جديد لتوريد الأسلحة تزيد قيمتع على 100 مليون استرلينى، ويتضمن عشرات من الطائرات المقاتلة، إلى جانب معدات للسيطرة الارضية والاتصالات، والتدريب والصيانة. ولم يتم توقيع العقد مع شركة الطائرات البريطانيو فحسب، وانما مع شركة "إيروورك" أيضاً، وهي شركة خاصة كانت تعمل واجهه للحكومة، وردت ضباط القوات الجوية الملكية "المتقاعدين" لتدريب الطيارين السعوديين. وقد قدمت بريانيا شركة إيروورك لتفادى التسبب في "إحراج سياسي" للسعوديين من اعتبارهم يعتمدون على طيارى القوات الجوية الملكية، وبذلك تصبح كما لاحظ المسئولون "هدفاً لرعاية القاهرة." وكانت الصفقة برهاناً آخر على المدى الذي اثبتت بريطانيا انها مستعدة للمضي اليه لمساعدة النظام السعودي، وفى 67-1968 قررت الوزارة البريطانية إنهاء التزاماتها العسكرية إزاء البحرين والكويت وقطر والمشيخات الصغيرة في دول الساحل الشرقي لشبه الجزيرة العربية التي تشاطئ الخليج بحلول 1971، بعد عقود من إدارة "امنها الداخلي" ودفاعها". فقد رأى المخططون أن الوضع اصبح شديد الوضوح: "ان انسحابنا العسكري سيقضى على قدرتنا على القيام بدور كبير في تحديد التطورات في الخليج الفارسي". كانت بريطانيا لا تزال لها مصالح كبيرة في المنطقة، فبحلول 1968، كانت شركات النفط البريطانية منخرطة في العمل في كل دول النفط عدا السعودية والبحرين، وكانت تسهم بمبلغ 80-100 مليون استرلينى سنوياً في ايرادات الضرائب التي تعود إلى الخزانة وبما يربو على 200 مليون استرلينى سنوياً في ميزان المدفوعات. وهكذا أبرزت وزارة الخارجية ان الانسحاب يتعين ان "يترك وراءه وضعاً مستقراً قدر الامكان تستطيع التجارة ان تزدهر فيه، ويمكن ضمان امدادات النفط بشروط معقولة وتأمين الاستثمارات البريطانية (خاصة من خلال شركات النفط) والابقاء على حقوق الطيران إلى الشرق الاقصى فوق المنطقة"، كان هناك خطر محتمل يتمثل في أن "تقع" نفس ارصدة الاسترلينى الكبيرة جداً التي تحتفظ بها الكويت وبلدان الخليج الاخرى – وتقدر بمبلغ 400 مليون استرلينى – "في ايد غير صديقة". وهكذا اصبحت السعودية حتى أكثر اهم بالنسبة لبريطانيا، إذ اصبحت تعمل كرجل شرطة إقليمي وحصن ضد القوى القومية والشعبية، واعتبرت "ثقلاً موازياً" لمصر والدول العربية القومية وكذلك "حاجزاً بينها وبين دول الخليج".
وفى خطاب أرسله دونال مكارثى وهو مسئول بريطاني في عدن في 8 يوليو 1965، كتب إلى وزارة الخارجية ملاحظاً بكل الرضى "النفوذ السعودي المهم جداً" في محمية عدن الشرقية التابعة لبريطانيا. وقال مكارثى انه كان هناك عدد من السعوديين لهم ارتباطات بالمنطقة يشجعون الحكومة على الاستثمار في مشروعات لزيادة النفوذ السعودي في المنطقة لابعادها عن "النفوذ الناصرة المحتمل". وفي القائمة التي أوردها مكارثى لهؤلاء الاعيان، هناك اسم يجذب الانتباه بوجه خاص: بن لادن، في إشارة إلى محمد والد أسامة، الذي كانت شركة التشييد الخاصة به قد ابرمت عقوداً بعدة ملايين كثيرة مع بيت آل سعود.
لقراءة الحلقة الأولى من عرض الكتاب ........... اضغط هنا
لقراءة الحلقة الثانية من عرض الكتاب ............. اضغط هنا