تفكيك التصوف
الخميس 14/يناير/2016 - 11:39 م
طباعة
عطفا على ما كتبت عن لغز التصوف، وما أثاره الموضوع من ردود فعل متباينة بين تأييد مغال ورفض متشنج، أعود إلى الموضوع توضيحا وتفكيكا متوسلا المقاربة الفكرية –التاريخية. أعلن بداية بأني لست من سلفية أهل الحديث المسالمين، كما أني أتبرأ من سلفية الدواعش الثائرين. وما أنا إلا فرد ينتمي إلى أمة الإسلام؛ أحَبّ الإسلام ويغار على أمته، يدفعه العقل إلى كتابة كلمات عساها تستنهض في أبناء أمته فكرا، أو تحدث لهم ذكرا.
قبل الشروع بتفكيك جديد للتصوف، أستحضر ما كتب من ردود على مقالتي السابقة لأثير أسئلة تمهيدية: هل الشيخ ضروري حتى يعرف السالك ربه؟ وإذا كان ضروري، أ لِسِرٍّ خصه الله به، أم لخبرة روحية وفقه بالقرآن والسنة؟ وإذا كان السلوك إلى الله عند الصوفية يشترط شيخا مخصوصا بالسر ومؤيَدا بإذن التربية، فهل يشبه ذلك جنوح الكنيسة إلى الوساطة في الدين وانتصاب البابا حاجبا بين الإله والعباد؟ أيستحيل أن يعرف العبد مولاه بلا واسطة؟
وبخصوص الإيمان بالغيب، ألا يكفي الإيمان بالله وملائكته واليوم الآخر بصراطه وجنته وناره؟ كيف يُجبَر المسلم على الإيمان بخوارق الأولياء والأدعياء؟ وهل يعد ضالا من ترك الشيخ وأنكر خوارق المتصوفة؟ وإذا قيل بلى، ألا يزج هذا الحكم بالمتصوفة في متاهة الإقصاء والتكفير؟
أنطلق من محنة العلامة ابن رشد التي عدها بعض الباحثين محنة سياسية. وفي الحق كان ظاهرها سياسي، بينما كان عمقها ديني-فكري، إذ لم يعرف العالم الإسلامي حرق كتب فيلسوف عظمه الإنسيون في الغرب واسْتَعْدَتْه الكنيسة الكاثوليكية، إلا في سياق تاريخي تعاظمت فيه شوكة المتصوفة "البيورتانيين" أصحاب الأسرار والكرامات ! فكيف لا يُمنى بذاك المصير من كتب "تهافت التهافت" ردا على "تهافت الفلاسفة" وكاتبه المتصوف أبي حامد الغزالي؟ ليس غريبا إقصاء من شرح للناس كتب أرسطو في المنطق؟ وهل يعقل أن يقدم يعقوب المنصور على مثل هذا العمل دعما للمتصوفة وقد كان يأخذ بمنهج ابن حزم الظاهري؟
تؤرخ السينما العربية لهذه المحنة المؤلمة، التي تشير إلى انتصار الوهم على العقل، من خلال فيلم "المصير" وبطله الراحل نور الشريف، حيث صور مخرجه الراحل يوسف شاهين المجتمع الموحدي المغربي-الأندلسي خلال القرن السادس الهجري الذي شهد بروز حركة دينية قوية مغالية في الروحانيات؛ تغري الشباب بولوج عالم الخوارق والكرامات، ولم يسلم من دعاية هذه الحركة حتى ابن الخليفة يعقوب المنصور.
فظل أقطاب هذه الحركة يضغطون على المجتمع والسلطة إبان فترة كان يهم فيها المنصور بشن حرب على الفونسو الثامن ملك قشتالة الذي ظل يتربص بمدن الأندلس. فاضطر المنصور، درءا لفتنة العامة ورصا للصف، إلى طرد صديقه ووزيره القاضي والطبيب ابن رشد وحرق كتبه، فكانت أحداث هذه الدراما من الأعمال التي وافقت بعمق ما حوته المصادر التاريخية، عدا بعض الجزئيات، ومشهد تآمر زعامات هذه الحركة الدينية مع المسيحيين فهو حدث يحتاج إلى تحقيق.
الشاهد عندي هو أن مظاهر التصوف تضرب جذورها أعماق التاريخ وإن اختلفت تسميات معتنقي التصوف عبر الزمن. وقد يسعفنا توظيف المنهج المقارن بالوصول إلى أبعد نقطة في تاريخ التصوف. فإذا انطلقنا مما طرأ على الدين المسيحي من تغيير أثار غضب المصلحين الدينيين المحتجين " les protestons" منذ القرن 15م، والمتمثلة ببيع صكوك الغفران لينال الناس عتبة الخلاص، فإن محتوى هذه الصكوك لا يعدو أن يكون إلا أذكار وأدعية خص بها المسيح بعض حوارييه الذين وَرّثوها للقديسين جيلا بعد جيل. أليس ذلك شبيها بـ "السر" الذي يدعي بعض المتصوفة أن الرسول صلى الله عليه وسلم أودعه عند علي بن أبي طالب رضي الله عنه ومنه إلى شيعته والتابعين ومشايخ الطرق الصوفية، فمنحوا بذلك سر التربية وإذن السلوك إلى الله؟ !
أوجز القول باطمئنان: كأني بالبيئة الأوروبية منذ القرن 15م- بعد تضحيات الإنسيين والبروتستانت في سبيل عقيدة مصدرها الإنجيل؛ تلغي الطبقية الدينية وترفع عن البابوية صفة القداسة وتحارب الخرافة وأكل أموال الناس بالباطل- بدأت تلفظ الأفكار القاتلة لتلقي بها في العالم الإسلامي. ويبدو أن هذا العالَم كان جاهزا للعدوى بعد أن أنهى مهمة تأسيس المنهج التجريبي كما أثبتت ذلك المستشرقة "زغريد هونكه" بمؤلفها "شمس الله تسطع على الغرب".
لا أبتغي بمقاربتي التفكيكية القضاء على التصوف أو إقصاءه من الحياة الاجتماعية فذاك من المحال، إذ سيظل حيا ما بقيت فكرة التمركز حول الروح، فهو يُعبر عن وظيفة ضرورية يحتاجها المجتمع، غير أني أحاول مراقبة هذه الوظيفة حتى لا تحدث نشاطا سرطانيا يفضي إلى الموت.