"ثورة" المتدربين
الخميس 21/يناير/2016 - 09:38 م
طباعة
أَقسم بنكيران ألا يتراجع عن المرسومين "المشؤومين" ولو أفضى الأمر إلى إسقاط الحكومة. إن إصرار رئيس الحكومة، وطول أمد احتجاجات الأساتذة المتدربين، وتأييد مكونات الحكومة تدخل قوات الأمن، وإشعاع قضية الأساتذة المتدربين في الأحياء والجامعات والثانويات، يثير التساؤل: ما الذي يدفع بنكيران إلى المغامرة بشعبية حزبه على هذا النحو؟ هل تلَقّى فكرة المرسومين في سياقها الإيجابي دون أن ينتبه لسياقها السياسي الملغوم؟ ولِم وقع الأساتذة المتدربون التزاما ثم انتفضوا ضده عاجلا؟ أيُعقل ألا يلجأوا إلى القضاء حتى اليوم؟ هل كانوا ضحية إغراء أطراف سياسية تريد رأس الحكومة؟
جملة أسئلة متشابكة يصعب مقاربتها بإجابة تقنية قانونية، فلا الحكومة يعوزها العقل القانوني لتسقط في مطب محرج، ولا بحوزة المتدربين حجج قانونية تجعلهم يحجمون عن طرق باب القضاء أو تغري فرقا نيابية معارضة فتتلقفها لإدانة الحكومة أمام المحكمة الدستورية.
لكن المقاربة التي قد تسعفنا بفهم عميق، هي المقاربة التي تستحضر السياق السياسي، وتنظر إلى أحداث التاريخ القريب استجلاء للعبر.
لا يختلف عاقلان حول وجود من يوظف ملف الطلبة المتدربين سياسيا، لكن قد يختلفا في اعتبار الملف من أصله صراع جديد تخوضه قوى النكوص مُستهدفة رأس حكومة الربيع.
إن المتأمل للوضعية تشده تناقضاتها العميقة الجاهزة لبلوغ أقصى درجات التوتر؛ رئيس حكومة يغريه توسيع عرض التكوين، وفي المقابل طالِب يلهث وراء منصب مضمون.
من ناحية تتوالى شتى ألوان الضغط النفسي والسياسي لتشعر بنكيران بفقدان السيطرة، ولتصوره غير قادر على ممارسة دوره الرئاسي (المادة 30 من قانون المالية، قرار بلمختار بشأن تدريس العلوم بالفرنسية...)، وفي ناحية أخرى طلبة يُمَنّون النفس بتراجع الحكومة مثلما تراجعت عن مشاريع سابقة، ويتأثرون نفسيا بتعبئة توظف المقارنات الفئوية وإيحاءات تعمق الشعور بالتهميش والاحتقار.
ثم إن المتابع للمبادرات الإصلاحية الحكومية(القضاء، المقاصة،...) يدرك حجم المواجهة التي توَلّاها من أَلِف الامتيازات الإدارية والمالية، وأشعلها مأجورون ثم غذاها مغرضون، فبلغت عتبة تنظيم إضراب عام.
فلو مثّلت بصندوق المقاصة الذي التهم ربع ميزانية الدولة سنة 2012 (5600 مليار سنتيم)، وصُرِف معظمه إلى جيوب أغنياء المغرب، فقد قامت كل أطياف المعارضة لإدانة رفع الدعم عن المحروقات، واليوم بلع الجميع لسانه بعد جني ثمار الإصلاح بضمان توازن المالية العمومية وتحقيق مزيد من العدالة الاجتماعية. فهل يبوء هؤلاء بالخطأ؟ وهل يملكون جرأة الاعتراف بأنهم كانوا ضحية دعاية مشؤومة تزعمها المستفيدون من دعم الصندوق؟ ألا ينتابهم الخجل وقد كانوا يسعون بمعارضتهم إلى تسمين السمين؟ هلا اعتذروا اليوم للشعب عن عرقلتهم مساعي الإصلاح؟ وقد لا يحتاج الشعب المغربي إلى اعتذارهم بعد أن رد بأسلوبه الذكي يوم 04 شتنبر 2015.
كل التطورات على الأرض تشير إلى خوض خصوم الإصلاح جولة ثانية في معركة تقويض حكومة الربيع قبيل تشريعيات 2016.
نعم ! استأسد رئيس الحكومة وهو يلقي خطابه الأخير من مجلس المستشارين، غير أن استئساده لم يكن على الأستاذ المتدرب بقدر ما كان على من يستثمر الأستاذ سياسيا، إذ زأر بعدم التراجع ولو سقطت حكومته، فكان ذلك تحذيرا واضحا لِمَن يصر على مواصلة تقويض إصلاحاته ويسعى للنيل من حزبه استعدادا لانتخابات 2016.
طبعا ليس بمقدور الطلبة المتدربين إسقاط الحكومة، بل يستطيع من أمسك بإحكام خيوط اللعبة في المغرب، ونهج استراتيجية استباقية قسمت المغرب إلى بؤر توتر، منذ تنصيب حكومة الربيع، ليسهل تحريكها في الوقت المناسب. فرسالة التخلي عن الحكومة من أجل إصلاح جزئي تقول لخصومه الأشداء: كفى من خبثكم الذي تجاوز كل الحدود وإلا سأستقيل بسلام وأحملكم كامل المسؤولية. وتؤكد للمتدربين : لن يلتفت المتحكمون الماسكين مفاتيح إسكاتكم إلى مطالبكم ولا إلى حسرتكم إن فقدتم مناصبكم بحكم القانون (ما غيعقلوش عليكم).
إن حدوث مثل هذا السيناريو يخدم في كل الأحوال حزب بنكيران، إذ سيُتوَّج من جديد أيقونة قلب الطاولة على التحكم، وسيؤكد زهده في المناصب والمسؤوليات ومحاربته من قبل خصوم الإصلاح. طبعا سيخسر الوطن سياسيا واقتصاديا إذا أُنهيت ولاية الحكومة قبل أوانها، وسَيُسأل عن هذه الخسارة من طال قبوعه في أريكة الظل، بل سيكون مجبرا على الإسراع بالخروج إلى الشمس بعد أن بدأت الرطوبة تأكل أجنابه.
إن استحضار الجانب السياسي بموضوعية والأساتذة يخوضون المعركة أمر بديهي، وإن لم يفعلوا فلقلة خبرة عند أساتذة الغد، أو لكثرة في مكتب مسير تنزع إلى الغلو والانتحار.
سيطوي الزمن هذه الأزمة، وإذا قدر لنا الاطلاع على تقارير التيارات المغالية في دعم معركة الطلبة المتدربين، أتوقع قراءة تقرير صاغه اليسار الراديكالي بعنوان: "الانتفاضة المجيدة للأساتذة المتدربين 2016"، أو مشاهدة شريط صَدّره أنصار الإسلام اليساري بعنوان: "قومة أساتذة الغد".
لكن الجميل من كل ذلك أن يكتب التاريخ عن حكومة تشبثت بمرسوم غير مسبوق يوسع دائرة الاستقطاب ويؤهل آلاف المجازين إلى مهن التربية والتكوين.