معضلة لغة التدريس !
الخميس 21/أبريل/2016 - 10:01 م
طباعة
أعود إلى الحديث عن لغة التدريس بعد استبشار المغاربة بتمكين وشيك للغات الوطنية في التدريس، وبعد تقريع غير مسبوق، على الهواء مباشرة، احتضنته المؤسسة التشريعية، لوزير التربية من قبل رئيس الحكومة على خلفية إصدار الوزير مذكرة تقضي بالشروع في تدريس بعض المواد العلمية باللغة الفرنسية. غير أنه من حينها لم نسمع جديدا إلا ندوة صحفية عقدها وزير التربية حول رؤية 2015-2030 حيث أكد على تدريس تلامذة الثانوي التأهيلي المواد العلمية باللغات الأجنبية.
فما مآل رفض رئيس الحكومة لقرار وزيره على الهواء؟ وما السر وراء هذا التناقض بين رئيس ومرؤوس؟ وهل سيرى مشروع لغة التدريس هذا النور، أم لا يعدو أن يكون مجرد ملف سياسي، يعضد ملفات أخرى، تديرها أطراف مستترة لإرباك حكومة بنكيران؟
لا يمكننا إنكار كون فكرة الوزير مستوحاة من التقرير الوطني للمشاورات حول المدرسة المغربية الصادر في شتنبر 2014، غير أن الرأي القائل بتدريس المواد العلمية باللغة الفرنسية في الثانوي تعبيدا للتلاميذ طريقا يسهل معها النجاح وتجاوز الهدر بالجامعة، جاء هامشيا ومناقضا للمقدمات التي تصدرت المقترحات، ومتجاوزا التزام التقرير بـ "مراجعة المسألة اللغوية في ضوء أبعادها السياسية والثقافية والعلمية والبيداغوجية الديداكتيكية، من خلال فتح حوار وطني جاد حول لغة التدريس وتدريس اللغات بهدف إقرار سياسة لغوية قويمة تحرص على تقوية اللغتين الوطنيتين ودعمهما..."(راجع التقرير ص:38).
وهل في تدريس المواد العلمية باللغة الفرنسية تقوية ودعم للغتين الوطنيتين؟ ! وهل تشكل الفرنسية، اليوم، لغة علم وبحث علمي؟ كلاّ، إن هذا المسعى لن يجعلنا إلا موظفون أو تقنيون عند "ماما" فرنسا !
ثم إن المقترحات الواردة في التقرير بشأن لغة التدريس، تحدثت عن تعريب التعليم العالي وجعل اللغة العربية حاملة للعلم والتكنلوجيا، كما أنها دعت إلى الحسم في اختيار لغة تدريس المواد العلمية. فلِمَ الحسم قبل إطلاق الحوار بهذا الشأن؟ ومالي أرى صمتا يخيم على قوى مافتئت ترصد مواطن التعثر الحكومي بشأن الحوار والاشراك؟ !
قد لا أكون مجانبا للصواب إذا قلت أن الوزير لم يكن مخالفا لرئيسه فحسب، بل كان معارضا للدستور المغربي الذي أكد في الفصل الخامس على مسؤولية الدولة بالتمكين للغة العربية و"حمايتها وتطويرها، وتنمية استعمالها". فهل في تهريب الفرنسية إلى الثانوي، بأفق إحلالها في الاعدادي، كلغة للتدريس، حماية وتطوير وتنمية للعربية؟ !
وهل ترسيم اللغة الأمازيغية، إلى جانب العربية، يتطلب إصدار مذكرات تحث على إدماج الأمازيغية في مختلف مستويات التعليم، وبلورت إجراءات ملموسة من قبل الوزارة الوصية لتسخير حمولتها الثقافية في فهم الظواهر العلمية ونشر منتوجها الأدبي والفني؟ أم يدعو إلى الهرولة لانقاذ وضع الفرنسية في المغرب، بحجة طمس الفئوية وضمان تكافؤ الفرص بين أبناء المجتمع لولوج المعاهد والتخصصات العلمية؟
ذاك هو أسلوب المستبدين المستكبرين؛ يخلقون مشكلات ثم يتصدون إلى ابتكار الحلول بذات العقلية التي أنتجت المشكلات. لو كانت لغة التدريس وطنية، هل كنا سنعيش اليوم وضع اللاتكافؤ والفئوية؟ ألم تحقق المنظومات التعليمية التي تمسكت بلغتها الوطنية نجاحا وإبداعا علميا؟ متى ستكف الأقلية المتغربة المتفرنسة عن إخضاع هذا الشعب لثقافتها البعيدة عن مخياله وتطلعاته؟ ألم تَمَل التجريب تلو التجريب، ولم نجن من تجاربها سوى الفئوية والهدر، وضمور الابداع العلمي، وعجز الدولة الدائم عن جني ثمار استثماراتها الكبيرة في قطاع التعليم؟ أما آن أوان تجريب لغة تدريس وطنية في كافة أسلاك التعليم، وإعطائها الفرصة كاملة لبولوغ المدى دون عرقلة أو تشويش، ودون وضع كمائن تشدها إلى الفشل؟
إن مسعى وزير التربية يدعو كل غيور على الوطن ومحكم للدستور أن يجعل من المذكرة المشؤومة مسألة للتداول في القضاء الاداري والدستوري، إذ بقدر ما أكد الدستور على حماية وتنمية اللغتين الوطنيتين، يُحَمِّل الدولة، في الفصل 31، مسؤولية "التنشئة على التشبث بالهوية المغربية والثوابت الوطنية الراسخة"، ولا يختلف العقلاء في أن اللغة تشكل أهم روافد الهوية، وفي أن اللغة وعاء للقيم والثقافة. كيف يقر العقلاء أن الابتكار يكون بالتفكير من خلال اللغة والهوية والثقافة والقيم، ثم يأتي هؤلاء ليتصرفوا عكس ذلك؟ هل يريدون القول بأن المغرب يشكل الاستثناء بهذا الشأن؟ ! بئس الاستثناء هو إذا جاء على هذا المنوال !
لا يمكن لوزير التربية ولا للمجلس الأعلى للتربية والتكوين أن يستعليا على الدستور، وإذا كان التشبث بالهوية، والحرص على تيسير استيعاب العلوم، وضمان شروط نجاح البحث العلمي تزمتا، فلا ضير من أن نوصف بالتزمت. غير أنه ما من شك في أن الاستلاب والانجرار وارء الآخر يبدأ باللغة وينتهي بفقدان السيادة، إذ حينها تختل الموازين، وتضطرب القوانين، ويُقرأ دستور الدولة بشكل مُهين.
طبعا لا يمكن الخلط بين الباكالوريا الدولية وتدريس المواد العلمية بالفرنسية، إذ الأولى تعد انفتاحا حقيقيا وانخراطا في عمل أممي يُرشح بعض شبابنا ذا الذهنية الاستعلامية للتعاون مع شبان من مختلف أرجاء العالم للعمل من أجل عالم أفضل يسوده السلام والتفاهم والاحترام بين الثقافات المتنوعة.
لست ضد تعزيز الشراكة مع فرنسا، ولا ضد الانفتاح عليها، إنما أدعو فرنسا إلى إنهاء نزعتها الاستعمارية بإطلاق تعاون جديد ينفتح على كافة المغاربة، وليس على فئة صغيرة يطاردها الافلاس. نأمل أن تصحح اللجنة التي يترأسها رئيس الحكومة هذا الخلل الذي لا يبشر بخير، ولا يعبر إلا عن أجندات سياسية بائدة.