الجمال والخيال
الخميس 23/يونيو/2016 - 12:32 م
طباعة
بالأمس كان الناس يتلقون الأشياء من دون كثير اكتراث للوعاء الذي تعرض فيه، وكان المضمون يستأثرهم بالاهتمام. أما اليوم فلا أحسب أن أحدا ذو شأن يُقبل على شيء ما مهما سَمَتْ قيمته إذا خلا من لمسة فن أوبصمة حسن وجمال.
نعم لا نختلف في أن الناس مستويات، فمنهم من يرضى بأي شيء، وقد يشترط أن يكون محتواه جيدا، وكثير منهم لا يكتفي بالمضمون، بل يلح راغبا باستهلاك صَنعة يكسوها الجمال، وهذا الصنف من الناس قمين بكسب الرهانات الاجتماعية والاقتصادية والسياسية المعاصرة.
قد يحتج بعضنا بأن الحياة المعاصرة القائمة على المظاهر هي من طبعت النخب والجماهير على هذه الصبغة. غير أن هذا الاحتجاج أشبه بهروب إلى الأمام، وصاحبه مجانب للتشخيص السليم، ومتهاون منسحب من معارك النزال الحضاري.
إن حاجات الانسان تطورت عبر التاريخ، إذ ارتقى ذوقه وتعددت مواهبه وتعقدت رغباته، ولما علمت صفوة العالم ذلك انبرت على ابتكار أعذب الالحان وأبهى الصور وأدهى السيناريوهات لاستقطاب رضاه ولتوجيه سلوكه نحو أهدافها المنشودة.
لكن في المقابل، تَرى كثيرا من الدعاة يمتعضون ممن يتخير أحسن الاصوات لسماع القرآن، بدعوى أن جمال الصوت ومقامات التجويد تصرف عن التدبر. ولم لا يكون هذا الجمال دعوة إلى التدبر ومدخلا إلى الفهم؟ بل يمكن الجزم اليوم بأن الجمال مؤذن بالحضور والمشاهدة ومنطلق للاصغاء والتدبر. لا بل يمكن أن أدعي أن بث صور الجمال في كل شيء من أوجب واجبات الوقت، وما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب.
فالجمال صور تصنع الخيال، أما الخيال فهو المنطق الذي يتسامى على الواقع ساعيا إلى انتاج واقع أكثر رفاها وجمالا، فالانسان لا يتوقف عن مراكمة الانجاز لادراك حياة تملأها المتعة ويؤثثها الجمال، إلا إذا دخل الجنة؛ حينها فقط يصل بخياله إلى منتهى الاشباع.
قصة الخيال ليس ترفا فكريا ولا ضربا من أحلام اليقظة، إنها مساحات تفكير لامتناهية، وقوة فكر مولوع بالابداع.
لم يجد الانسان في الماضي سبيلا إلى التحليق في الفضاء، ولم يتلمس أزرار بعث الرسائل والصور بسرعة الضوء...، غير أنه يُحمد على بسطه مساحة الخيال، كما تشهد على ذلك كتب المناقب التي أرَّخَتْ لكرامات الصلحاء والأولياء، وقد نذمها لما حوته من شطحات وخرافات. وفي الحق كانت تعبر عن أحلام مؤجلة؛ أُقسم أنه لو ضاق الخيال حينذاك لما رأى الانسان خوارق التكنلوجيا المعاصرة تغمر كل بيت وكرامات العالم الرقمي تقود الحياة بمنتهى السلاسة.
بل يمكنني أن أدعي أن ما بات يُنتَج اليوم بفضل نماء الخيال، لو أُطلع عليه الأقدمون لقالوا أن قيادة العالم انتقلت من خلافة الانس إلى خلافة الجن. ولو قدر لهم أن يبعثوا فشاهدوا الانسان يُعَمِّر كوكبا آخر لقالوا أن الانسان ارتقى مدارج السالكين حتى بلغ مقام الملائكة فعرج إلى عمارة السماء، أو لربما قالوا فتحت الجنة أبوابها قبل يوم الحساب.
الجمال والخيال صنوان، فمتى ظهر الجمال تغذى الخيال واشتغل بشكل سمفوني مبدع، وبقدر ما يتسع الخيال تتناسخ صور الجمال لتحفز العقل على الوثب العالي، وتمني النفس بواقع تملأه السعادة والطمأنينة، ويعمه الرخاء والازدهار.