جامع النوري الكبير ورمزية تدميره
الأحد 16/يوليو/2017 - 10:08 م
طباعة
"جامع النوري الكبير" أو "الجامع الكبير" هما اسمان للمسجد التاريخي، المشهور بمنارته المحدبة ناحية الشرق والتي تعد واحدة من أهم الأثار التاريخية في مدينة الموصل العراقية. يبلغ هذا المسجد من العمر تسعمائة عام، حيث بناه "نور الدين زنكي" في القرن السادس الهجري. ولقد تم قبل ذلك ترميم المسجد وتشيده من جديد لكن ظلت منارته التاريخية كما هي لم يتم المساس بها. ويُعرف الحي الذي يوجد فيه المسجد باسم "محلة الجامع الكبير". وبعد سيطرة تنظيم داعش الإرهابي على مدينة الموصل وتحديدًا في يوليو 2014م قام زعيم التنظيم "أبو بكر البغدادي" بإلقاء خطبة الجمعة في هذا المسجد، وأعلن خلافته على التنظيم، ثم اختفى بعدها ولم يظهر ولم يعرف أحد عنه شيئًا إلا ما أُشيع مؤخرًا حول قتله نتيجة إحدى الغارات الجوية الروسية. وفي شهر يونيو المنصرم تم تفجير المسجد ومنارته التاريخية وسط اتهامات متبادلة بين تنظيم داعش الإرهابي والتحالف الدولي التي تقوده الولايات المتحدة، حيث اتهم كل منهما الآخر بتفجير المسجد، فاتهم التنظيم التحالف الدولي بقصف المسجد، واتهم التحالف الدولي ومعه الحكومة العراقية التنظيم بتفجير المسجد، ونفى كل طرف التهمة عن نفسه وألقى بها على الطرف الآخر، وذلك لمعرفة كليهما عظم جرم من يقوم بهذا العمل، لأن ما تم هدمه ليس أثرًا عاديًا أو بيتًا من مئات البيوت والمنازل والبنى التحتية التي نسمع عن تدميرها على مدار الساعة في سوريا والعراق وفلسطين واليمن وليبيا، وأصبح هدمها لا يضيف شيئًا سوى رقمًا جديدًا من أرقام البيوت المهدومة، والأفراد المقتولة، ومليارات الدولارات التي تحتاج إليها دول عالمنا العربي من أجل الإعمار، إن ما تم هدمه تراث إنساني وحضاري ملك للشعب العراقي وليس ملكًا لا للتحالف الدولي ولا لأي من التنظيمات الإرهابية، فالشعب العراقي هو صاحب الكلمة الأولى والأخيرة في موروثاته الأثرية والمعمارية يجددها ويرممها ويحافظ عليها لتتوارثها الأجيال المتعاقبة.
لكننا شئنا أم أبينا، فقد هُدم المسجد ومنارته العالية البالغة من العمر تسعة قرون في عمق التاريخ، ولم يعد يُجدي الحزن، ولن ينفع البكاء على اللبن المسكوب، لكننا في خضم أحزاننا على ما أحل بالشعب العراقي من موت ودمار طال كل شيئ، نريد أيضًا أن نقف على رمزية تدمير هذا المسجد التاريخي، ونقول بأن المسجد يحمل رمزية كبيرة للتنظيم، ففيه أُعلنوا خلافتهم، وفيه ظهر خليفتهم، ومنه انطلقت دعوتهم، لذلك فإن تفجيرهم له يرمز لشيئين الأول أن التنظيم الإرهابي بتفجيره لهذا المسجد يكون قد علم اليقين أن مدينة الموصل لم تعد تحت حكمه، وإنه خارج منها لا محالة. ثانيهما أن تفجيرهم للمسجد يعني أن المسجد الذي كان رمزًا لظهورهم وإعلان خلافتهم المزعومة أصبح رمزًا على جهلهم وتخريبهم، وعدم تقديرهم للمقدسات، إذ المسلمون دائمًا رمز للبناء، يتسابقون ويتنافسون في الإعمار، وخصوصًا في إعمار بيوت الله. والتاريخ يشهد على أن هناك الكثير من الدول بُني أول مسجد فيها من قِبل المسلمين العرب. فلقد بنى "أبو عبيدة بن الجراح" رضي الله عنه أول مسجد في تركيا في مدينة "أنطاكيا"، وأُطلق عليه اسم "مسجد حبيب النجار".
اما إذا كانت قوات التحالف الدولي بقيادة الولايات المتحدة الأمريكية هي من قامت بتدمير المسجد فإن هذا يعني انها أرادت القضاء على التنظيم ليس فقط من الناحية العسكرية، بل أرادت أيضًا محو أي رمزية له، أو دلالة على وجوده، أيًا كان هذا الرمز، وهذا أمر خطير، وميكافيلية شديدة الخطورة، إذ ليس معنى سيطرة داعش على المسجد لمدة عامين يُعني أن المسجد أصبح لهم، ورمزًا على وجودهم، ولا يمكن بأي حال من الأحوال إهمال تسع قرون كان المسجد فيها ملك للمسلمين، والنظر إلى عامين اختتطف فيهم هذا التنظيم الدموي المسجد. إن الإرهاب يأتي ويندحر والبلاد وموروثاتها حية وباقية، ولنا المثل في أسبانيا التي ظلت تحارب ارهاب تنظيم "ايتا" اربعين عامًا، وفي النهاية سقط الإرهاب وبقيت أسبانيا وموروثاتها ملك لشعبها. أسأل الله العظيم أن ينعم على الشعب العراقي وجميع الشعوب العربية بالأمن والرخاء.