الإرهاب ما بعد داعش
الأربعاء 13/يونيو/2018 - 01:51 م
طباعة
كلمة "داعش"، المصبوغة بسخرية صريحة، في الأصل، هي مأخوذة من العبارة العربيّة المختصرة لاسم المنظمة الإرهابيّة "الدولة الإسلاميَّة في العراق والشام"، وهذه الكلمة دخلت، في غضون عام واحد فقط، في اللغة الشائعة واليومية لمعظم دول العالم.
ومن خلال ضربتين، في قلب باريس، ثم في بروكسل، قد تمكّنت هذه الذراع الجديدة للجهاد العالمي أن تجذب انتباه الناس، وتحتل واجهة المشهد الإعلامي الدولي.
إلا أنّ هذا الاقتحام المَهيب والمُرَوّع لحياة العالم ولغته، يعيد للأذهان تنظيمًا جهاديًّا سابقًا شبه مُماثل، ظهر قبل أربع سنوات، ألا وهو "أقمي" وهو الاختصار لتنظيم القاعدة في بلاد المغرب الإسلاميّ.
وبنجاحها في اختطافها الجريء لسبعة موظفين للشركة النووية الفرنسية العملاقة "أريفا" واحتجازهم كرهائن في سبتمبر 2010م، لقد احتلّ فرع منظمة بن لادن في منطقة الساحل المغاربيّ اللّغات العالميّة والعقول لشهور عدَّة إلى حدِّ التغطية على التنظيم الأم «القاعدة».
وكما كان الحال بالنسبة لتنظيم القاعدة في بلاد المغرب الإسلامي، فإنّ داعش في أعقاب أخذها لرهائن شركة أريفا، قد وصلت إلى ذروة سمعتها المرعبة، من خلال الهجمات الدموية التي ارتكبت في باريس وبروكسل.
ولكن مثلها مثل تنظيم القاعدة في بلاد المغرب الإسلامي في ذلك الوقت، ليست داعش سوى "فقاعة" عابرة ومبالغ فيها، وبهذا السبب فإنّ الخلافة الزائفة، التي أنشأها من خلال إعلان نفسه "الدّولة الإسلاميّة"، هي مَهيبة ومُخيفة ومُكَبّرة؛ كما هو شأن أيّ "فقاعة" حسب تعريفها؛ إلا أنّها مُؤَقَّتة وخاطفة!
مَن يتذكّر أو يهتمّ اليوم بالقاعدة ببلاد المغرب الإسلاميّ، الّذي كان تنظيمًا مُرْعِبًا، بعد خمس سنوات من صعوده المثير وأسطوله المكون من "أمراء الصحراء "، والّذي كان على كل لسان في الفترة ما بين عام 2010م وعام 2011م؟
من سيتذكر في المستقبل تنظيم الداعش البغيض وجحافله المشبهة بـ«الخمير الأحمر الجهادي» بعد انفجار الفقاعة السّورية العراقيّة، عملت كحاضنة للموجة الجهادية المتدفقة من جميع أنحاء العالم لتنضم إليه، ولزيادة عدد صفوفه؟
واستفاد داعش بالتّأكيد بشكل كبير وعلى نطاق واسع، من الفوضى التي ولدت من ثورات «الربيع العربيّ»، ووضعت يدها على أراضٍ واسعة وخصبة، غير متناسبة مع الشريط الساحلي الصحراوي الواسع الذي احتلته القاعدة ببلاد المغرب الإسلامي. كما وضعت يدها على ترسانة كبيرة من المعدات الحربية، بما في ذلك مئات من قطع المدفعية والدبابات وحتى الطائرات المقاتلة، وأيضًا على مبالغ مالية ضخمة، التي لم تحصل عليها من قبل أي منظمة إرهابية.
ومع ذلك فإنّ الهجمات في باريس يوم 13 نوفمبر 2015م، التي أعطت داعش هالته العالمية، هي تلك التي نالت من خلافته الزائفة المزعومة!
لا خلاف أنّ هذه المُفارقة تذكر بالنكسة القاتلة التي تعرضت لها القاعدة ببلاد المغرب الإسلامي في أعقاب عمليّة الاختطاف المجيدة للرهائن من شركة أريفا، والتي أشاد بها أسامة بن لادن نفسه.
وفي الواقع أنّ الشّهرة الإعلامية الهائلة والمكاسب الماليّة غير المتوقعة الّتي حصلت عليها الكتائب الساحليّة التّابعة للقاعدة ببلاد المغرب الإسلامي، من خلال عملية أخذ رهائن شركة أريفا ، قد عززت مركزها في تنظيم القاعدة الأم، وذلك على حساب التسلسل الهرمي المباشر لها، والتي تأخذ مقرها في شمال الجزائر. وهذا قد غذى لدى «أمراء الصحراء» طموح غزو أراضٍ أكبر، والاستيلاء عليها.
وهكذا فقد شنوا هجومهم على مدينة «باماكو» عاصمة «مالي» في يناير 2013م؛ ما أجبر فرنسا على الرّدّ بالعمليّة العسكريّة المعروفة بـ«سيرفال»، التي من شأنها أن تؤدي إلى القضاء على الحرم الجهادي للمُنَظّمة في منطقة الساحل.
وبالشّكل نفسه، فإنّ الهجمات الّتي وقعت في 13 نوفمبر 2015م أدّت بالتأكيد إلى أبراز صعود تنظيم داعش، وساعدت على توسيع صفوفه بمئات عدّة من المُجَنّدين الجهاديِّين، خاصة الذين جاؤوا من أوروبا والمغرب العربيّ. لكن لها أيضًا تأثير مضاعف في كسب الولاء من قِبل مُجاهدي الجماعات الجهاديّة من جنسيّات مُخْتَلِفة، والّذين اختاروا الانضمام إلى الخلافة الزّائفة لداعش؛ ليُقَدّموا من تلقاء أنفسهم أراضيَ جديدة للجهاد.
هذه التّجمّعات التّلقائية لم تستغرق وقتا طويلًا لتوجد داخل داعش الطموح، بأن يصبح ذا طابع عالمي، وهكذا أخذ أبوبكر البغدادي، الخليفة المزعوم الذي نصَّب نفسه بنفسه، يثبت أذرعه في المناطق النّائية، دون التواصل الجغرافي مع دار الخلافة (في الشام والعراق).
وتلك الأراضي تمتد من نيجيريا إلى إندونيسيا، مرورًا بـ«القنبلة اللّيبية»، التي شهدت إعلان داعش الرسميّ لإمارته الثّانية في سرت، ومن هذه الأراضي أيضًا القوقاز؛ حيث "جند الخلافة" الّذين يغذّون الطّموح لوخز كعب أخيل للعملاق الروسي!
وهذه العولمة السريعة لداعش سببت "أضرارًا جانبيّة" كبرى، وهي: خلق "جيل تلقائيّ" من المرشّحين للجهاد، الذين أقاموا من تلقاء أنفسهم ذراعًا مسلحة للخلافة الدّاعشية في الغرب. ويمثلون شكلًا غير مسبوق لـ"إرهاب منخفض التكلفة الماليّة"، الّذي يستنبط مفهومه من "حالة الموت" العدميّة من كونه "الحرب المُقَدَّسة" التَّقْليديّة؛ السّلفية الجهاديّة.
هذا الفكر الجهاديّ العدميّ- الّذي روي، في معظم الأحيان، من خلال الدّوافع الاجتماعيّة والنفسيّة والمتّصلة أيضًا بالهوية، وبلا صلة مباشرة مع الواقع الدّيني - اتّخذ أسلوب عمل خاصًّا "بهذا الفيلق الأجنبي" الداعشي، الّذي خلق ظاهرة مُرعبة للجهاد بالتَّواصل المُسْتَمِر من خلال تكنولوجيا المعلومات (أوبرة الجهاد إشارة إلى مجموعة من الأنظمة الجديدة في الاقتصاد الَّتي تسمح للمنتجين والزبائن التواصل تلقائيًّا باستخدام التقنيات الحديثة uberisation )، مثل استخدام شبكات أقلّ تطوّرًا الّتي تقتصر مكوّناتها غالبًا على خلايا أُحاديّة، والمعروفة لدى وسائل الإعلام بـ«الذّئاب المنفردة»؛ الّتي تنتهج وسائل وأساليب عمل بدائيّة غير المتوقع. وهذا يزيد من صعوبة الكشف عن أعمالهم أو توقعها من قِبل هيئات مكافحة للإرهاب.
وبالوصول إلى هذه النقطة فإنّ هذا «الإرهاب منخفض التكلفة»، الذي ليس له أيّ هدف سياسي، واستحق بجدارة وأكثر من أي وقت مضى وصف «الأعمى»- تَمَكّن من ترويع الناس، وبث الرعب في قلوبهم بشكل غير مسبوق.
ولأنّ هذا النوع من الترويع الموصوف بـ«الإرهاب البدائي»، والذي صبغ بالارتجال والهواية، يتدخل في كل تفاصيل حياة الناس، ويستهدف شؤونهم اليومية، ويهدد بشكل لم يحدث من قبل الحرية والعفوية اللتين تميزان أسلوب الحياة الغربي.
ومع ذلك، فإنّ تأثير تعامل داعش بأساليب بغيضة وكريهة كأوبرة الجهاديين، لإرهاب الناس كان بمثابة سلاح ذي حدين أساء لهذا التنظيم؛ ففي الوقت الذي زادت فيه قوة إزعاج أذرعه الأجنبيّة عشرة أضعاف، فإنّ ذلك أسهم إلى حدٍّ كبير في تضييق الخناق حول خلافته المزعومة.
والواقع أنّ قوّة الازعاج الداعشي المتزايدة الَّتي شنّت الحرب على الغرب سرعان ما أفسحت المجال لترك الاختلافات في الآراء، والتّكالب على المصالح التي كانت تمزق القوى العظمى الإقليميّة والعالميّة منذ اندلاع الأزمة السوريّة.
وهكذا وُلد إجماع دوليّ واسع النطاق، يَعتمد على ضرورة قيام معركة ضد داعش قبل ما تنمو مخالبها لسفك الدماء، وبثّ الرعب في القلوب بارتكاب هجمات جديدة مدوية وواسعة النطاق.
وفي 15 نوفمبر 2015م، يومين فقط بعد هجمات باريس، أطلقت عشرات الطائرات الحربيّة الفرنسيّة، وللمرة الأولى، غارات مُكَثَّفة على مُعَسكرات ومراكز قيادة وتدريبيّة لداعش في قلب الرِّقة، عاصمة الخِلافة الزّائفة.
ومنذ ذلك الحين، يقوم ائتلاف مُكَوّن من دول عدّة غربيّة وعربيّة بشنّ هجمات جويّة ضد معاقل داعش في سوريا والعراق، في حين كانت هذه الغارات في السابق تقتصر فقط على الجزء الّذي كانت تحتلّه داعش من الأراضي العراقيّة.
وفي 15 ديسمبر 2015 أعلنت المملكة العربيّة السعوديّة بمباركة كلٍّ من الولايات المتّحدة وفرنسا تشكيل تحالف من 34 دولة مُسْلمة أعلنت استعدادها لإشراك قوّاتها البرّيّة في الحرب على داعش؛ لتعزيز غارات التّحالف الدّوليّ، وذلك في ظلّ الإحجام الغربيّ عن إرسال قوات على الأرض لطرد التنظيم ممّا تبقّى له من معاقل في سوريا والعراق، وتحطيم ما يُسَمَّى دولة الخلافة المزعومة.
وعلى جانب آخر، نجد أنّ دخول روسيا الحرب، الّذي تم الإعلان عنه رسميًّا في 30 سبتمبر 2015، قد أسهم في توجيه ضربات أكثر قسوة لداعش في سوريا، ويعود الفضل في ذلك إلى الغارات الجويّة الّتي تمّ تنفيذها بالتعاون الوثيق مع القوات البريّة للجيش النظاميّ السوريّ، بدعم من حزب الله اللبنانيّ وميليشيات الحرس الثّوري الإيراني.
ويتزايد عدد الخبراء والسياسيّين والعسكريّين الّذين يتوقعون انعكاس الأوضاع في سوريا مع بداية العام 2016، وهو الأمر الذي من شأنه أن يؤدي -في نهاية المطاف- إلى انفجار فقاعة داعش، وتدمير ما يُطلق عليه الخلافة. وتبدو هذه التوقعات ذات مصداقيّة كبيرة، فبعد أشهر طويلة من السلبيّة والحسابات التكتيكيّة الّتي كانت تهدف إلى تخفيض أسعار النفط- قَرّر التحالف الدولي، الذي تقوده الولايات المتحدة، أخيرًا ضرب مصادر تمويل الخلافة الداعشية، واستهداف مواردها النفطية.
وهكذا تمّ تدشين عملية «الموجة العارمة 2»، في 15 نوفمبر / تشرين الثاني 2015، من خلال سلسلة من الضربات التي دمّرت 116 شاحنة – صهريج تحمل موادّ بتروليّة مهرّبة، لصالح داعش، في منطقة بوكمال السوريّة، على الحدود العراقيّة.
وبالاستهداف المنتظم لتلك القوافل التي تنقل نفط داعش إلى تركيا المجاورة، خفض التحالف الدولي بشكل كبير الموارد المالية للخلافة الزائفة؛ ما حرمها من موجة هائلة من النفط، والتي كانت تجلب لها أكثر من مليوني دولار في اليوم الواحد.
تم إنهاك داعش ماليًّا، وتعددت هزائم التنظيم العسكرية، كما بدأت أراضي ما يُسمى بالخلافة في الانكماش السريع بشكل مُطّرد وفقد التنظيم على التوالي مناطق: كوباني (27 يناير2015) وتكريت (31 مارس) وجبل سنجار (12 نوفمبر) والرّمادي (28 ديسمبر) والشدادي ( 19 فبراير 2016) وتدمريوم (27 مارس) والفلوجة (يوم 26 يونيو / حزيران) ودابق (يوم 16 أكتوبر).. حتى تمّ تحرير الموصل في 9 يوليو 2017، وهي المدينة الّتي كان سقوطها في حزيران / يونيو 2014 بداية لتأسيس الخلافة الداعشيّة في العراق.
واستمرّت هزائم داعش في تل عفار والحويجة في العراق ودير الزور في سوريا. ثم جاء استرداد الجيش العراقي لمركز القائم الحدودي ، وهو أمر ذو دلالة رمزيّة كبيرة، فقد كان تدمير هذا المركز من قِبل داعش هو العمل المؤسّس لما يُسمى بالدّولة الإسلاميّة والّذي كان التنظيم يطمح من خلالة إلى إلغاء الحدود الموروثة من اتفاقات "سايكس بيكو" لإعادة الخلافة.
ثم جاء استرداد الرّقة عاصمة داعش المعلنة، وبذلك تمّ الانتهاء من تقطيع أواصل دولة الخلافة المزعومة لداعش؛ ما جعل انفجار فقاعة داعش أمرًا لا مفرّ منه، هذا الانفجار أزاح همًّا كبيرًا بطبيعة الحال، ولكنّه لم يجلب سوى الأخبار الجيدة فقط.
إنّ تدمير ما يُطلق عليه اسم الخلافة هو بلا شك عنصرًا حاسمًا إذا أردنا استعادة السلام، واحتواء مخاطر الحروب الأهلية في العراق وسوريا وليبيا.
أما على صعيد التهديد الإرهابيّ المُعَوْلم، فسيكون لتفكّك داعش تأثير مختلف تمامًا. فككل التنظيمات الجهادية التي سبقته منذ الحرب ضد السوفييت في أفغانستان (1979 - 1989)، سينتقل فيلق داعش الأجنبي بعد خسارة أراضيه من مرحلة التدفق إلى مرحلة الارتداد.
شهدت المرحلة الأولى تدفق عشرات الآف المُرشحين للجهاد من جميع الدول، ابتداء من صيف عام 2014؛ للانضمام إلى ما يُسمى بالخلافة. ثم أدى تدمير "حاضنة" داعش في العراق وسوريا إلى الدّخول في مرحلة جديدة، وهي مرحلة الارتداد؛ حيث توقف تمامًا تدفّق الجهاديين إلى العراق وسوريا، لتحل محله هجرة عكسيّة للجهاديين الّذين نجوا من الضربات العسكريّة، بحثًا عن ملاجئ جديدة، للهروب من مطاردة الشرطة الّتي هجمت عليهم.
وفي هذا الملف يتنبأ اثنان من الجهاديّين السّابقين بالأسوأ الذي يمكن أن يحدث في البلاد الأصلية لهؤلاء الجهاديين، النّاجين في حقبة ما بعد داعش:
- موجة زحف "الأفغان العرب " التي سفكت الدّماء في العديد من الدّول العربيّة، مثل الجزائر ومصر واليمن، في أوائل التسعينيات، عندما أجبر الجيل الأول من قدامى المحاربين الجهاديين على مغادرة أفغانستان بعد نهاية الجهاد ضد السوفييت واندلاع الحرب الأهلية بين فصائل المجاهدين الأفغان.
- موجة الجهاديّة الجديدة التي ضربت العالم العربي وأوروبا بعد تدمير معاقل القاعدة في أفغانستان في أعقاب هجمات الحادي عشر من سبتمبر 2001، الّتي شهدت ظهور أول جيل من الجهاديين الأوروبيين أو ما يُطلق عليهم «الأمراء ذوو العيون الزرقاء»، وقد قام هؤلاء الجهاديون بتنفيذ سلسلة طويلة ودموية من الهجمات: جربة (أبريل 2002)، الدار البيضاء (أيار / مايو 2003)، مدريد (آذار / مارس 2004) ولندن (تموز / يوليو 2005).
ويرى المراقبون أن «الإرهاب منخفض التكلفة» له قوة إزعاج مرعبة، لقد أتاحت سياسة "الأوبرة" الّتي انتهجتها داعش (يطلق هذا اللفظ على مجموعة من الأنظمة الجديدة في الاقتصاد التي تسمح للمنتجين والزبائن بالتواصل تلقائيًّا باستخدام التقنيات الحديثة) – سمحت - لبضع عشرات من الجهاديين الجدد الّذين عادوا إلى أوروبا بشن هجمات دموية كهجمات باريس وبروكسل ولندن وبرشلونة.
إن ما يمكن أن يحدث في ضوء عودة آلاف الجهاديين، ذوي الأصول الأوروبية إلى القارة القديمة بعد انفجار "فقاعة" داعش- يرعب الحكام وأجهزة مكافحة الإرهاب الأوروبية.
ومن خلال ضربتين، في قلب باريس، ثم في بروكسل، قد تمكّنت هذه الذراع الجديدة للجهاد العالمي أن تجذب انتباه الناس، وتحتل واجهة المشهد الإعلامي الدولي.
إلا أنّ هذا الاقتحام المَهيب والمُرَوّع لحياة العالم ولغته، يعيد للأذهان تنظيمًا جهاديًّا سابقًا شبه مُماثل، ظهر قبل أربع سنوات، ألا وهو "أقمي" وهو الاختصار لتنظيم القاعدة في بلاد المغرب الإسلاميّ.
وبنجاحها في اختطافها الجريء لسبعة موظفين للشركة النووية الفرنسية العملاقة "أريفا" واحتجازهم كرهائن في سبتمبر 2010م، لقد احتلّ فرع منظمة بن لادن في منطقة الساحل المغاربيّ اللّغات العالميّة والعقول لشهور عدَّة إلى حدِّ التغطية على التنظيم الأم «القاعدة».
وكما كان الحال بالنسبة لتنظيم القاعدة في بلاد المغرب الإسلامي، فإنّ داعش في أعقاب أخذها لرهائن شركة أريفا، قد وصلت إلى ذروة سمعتها المرعبة، من خلال الهجمات الدموية التي ارتكبت في باريس وبروكسل.
ولكن مثلها مثل تنظيم القاعدة في بلاد المغرب الإسلامي في ذلك الوقت، ليست داعش سوى "فقاعة" عابرة ومبالغ فيها، وبهذا السبب فإنّ الخلافة الزائفة، التي أنشأها من خلال إعلان نفسه "الدّولة الإسلاميّة"، هي مَهيبة ومُخيفة ومُكَبّرة؛ كما هو شأن أيّ "فقاعة" حسب تعريفها؛ إلا أنّها مُؤَقَّتة وخاطفة!
مَن يتذكّر أو يهتمّ اليوم بالقاعدة ببلاد المغرب الإسلاميّ، الّذي كان تنظيمًا مُرْعِبًا، بعد خمس سنوات من صعوده المثير وأسطوله المكون من "أمراء الصحراء "، والّذي كان على كل لسان في الفترة ما بين عام 2010م وعام 2011م؟
من سيتذكر في المستقبل تنظيم الداعش البغيض وجحافله المشبهة بـ«الخمير الأحمر الجهادي» بعد انفجار الفقاعة السّورية العراقيّة، عملت كحاضنة للموجة الجهادية المتدفقة من جميع أنحاء العالم لتنضم إليه، ولزيادة عدد صفوفه؟
واستفاد داعش بالتّأكيد بشكل كبير وعلى نطاق واسع، من الفوضى التي ولدت من ثورات «الربيع العربيّ»، ووضعت يدها على أراضٍ واسعة وخصبة، غير متناسبة مع الشريط الساحلي الصحراوي الواسع الذي احتلته القاعدة ببلاد المغرب الإسلامي. كما وضعت يدها على ترسانة كبيرة من المعدات الحربية، بما في ذلك مئات من قطع المدفعية والدبابات وحتى الطائرات المقاتلة، وأيضًا على مبالغ مالية ضخمة، التي لم تحصل عليها من قبل أي منظمة إرهابية.
ومع ذلك فإنّ الهجمات في باريس يوم 13 نوفمبر 2015م، التي أعطت داعش هالته العالمية، هي تلك التي نالت من خلافته الزائفة المزعومة!
لا خلاف أنّ هذه المُفارقة تذكر بالنكسة القاتلة التي تعرضت لها القاعدة ببلاد المغرب الإسلامي في أعقاب عمليّة الاختطاف المجيدة للرهائن من شركة أريفا، والتي أشاد بها أسامة بن لادن نفسه.
وفي الواقع أنّ الشّهرة الإعلامية الهائلة والمكاسب الماليّة غير المتوقعة الّتي حصلت عليها الكتائب الساحليّة التّابعة للقاعدة ببلاد المغرب الإسلامي، من خلال عملية أخذ رهائن شركة أريفا ، قد عززت مركزها في تنظيم القاعدة الأم، وذلك على حساب التسلسل الهرمي المباشر لها، والتي تأخذ مقرها في شمال الجزائر. وهذا قد غذى لدى «أمراء الصحراء» طموح غزو أراضٍ أكبر، والاستيلاء عليها.
وهكذا فقد شنوا هجومهم على مدينة «باماكو» عاصمة «مالي» في يناير 2013م؛ ما أجبر فرنسا على الرّدّ بالعمليّة العسكريّة المعروفة بـ«سيرفال»، التي من شأنها أن تؤدي إلى القضاء على الحرم الجهادي للمُنَظّمة في منطقة الساحل.
وبالشّكل نفسه، فإنّ الهجمات الّتي وقعت في 13 نوفمبر 2015م أدّت بالتأكيد إلى أبراز صعود تنظيم داعش، وساعدت على توسيع صفوفه بمئات عدّة من المُجَنّدين الجهاديِّين، خاصة الذين جاؤوا من أوروبا والمغرب العربيّ. لكن لها أيضًا تأثير مضاعف في كسب الولاء من قِبل مُجاهدي الجماعات الجهاديّة من جنسيّات مُخْتَلِفة، والّذين اختاروا الانضمام إلى الخلافة الزّائفة لداعش؛ ليُقَدّموا من تلقاء أنفسهم أراضيَ جديدة للجهاد.
هذه التّجمّعات التّلقائية لم تستغرق وقتا طويلًا لتوجد داخل داعش الطموح، بأن يصبح ذا طابع عالمي، وهكذا أخذ أبوبكر البغدادي، الخليفة المزعوم الذي نصَّب نفسه بنفسه، يثبت أذرعه في المناطق النّائية، دون التواصل الجغرافي مع دار الخلافة (في الشام والعراق).
وتلك الأراضي تمتد من نيجيريا إلى إندونيسيا، مرورًا بـ«القنبلة اللّيبية»، التي شهدت إعلان داعش الرسميّ لإمارته الثّانية في سرت، ومن هذه الأراضي أيضًا القوقاز؛ حيث "جند الخلافة" الّذين يغذّون الطّموح لوخز كعب أخيل للعملاق الروسي!
وهذه العولمة السريعة لداعش سببت "أضرارًا جانبيّة" كبرى، وهي: خلق "جيل تلقائيّ" من المرشّحين للجهاد، الذين أقاموا من تلقاء أنفسهم ذراعًا مسلحة للخلافة الدّاعشية في الغرب. ويمثلون شكلًا غير مسبوق لـ"إرهاب منخفض التكلفة الماليّة"، الّذي يستنبط مفهومه من "حالة الموت" العدميّة من كونه "الحرب المُقَدَّسة" التَّقْليديّة؛ السّلفية الجهاديّة.
هذا الفكر الجهاديّ العدميّ- الّذي روي، في معظم الأحيان، من خلال الدّوافع الاجتماعيّة والنفسيّة والمتّصلة أيضًا بالهوية، وبلا صلة مباشرة مع الواقع الدّيني - اتّخذ أسلوب عمل خاصًّا "بهذا الفيلق الأجنبي" الداعشي، الّذي خلق ظاهرة مُرعبة للجهاد بالتَّواصل المُسْتَمِر من خلال تكنولوجيا المعلومات (أوبرة الجهاد إشارة إلى مجموعة من الأنظمة الجديدة في الاقتصاد الَّتي تسمح للمنتجين والزبائن التواصل تلقائيًّا باستخدام التقنيات الحديثة uberisation )، مثل استخدام شبكات أقلّ تطوّرًا الّتي تقتصر مكوّناتها غالبًا على خلايا أُحاديّة، والمعروفة لدى وسائل الإعلام بـ«الذّئاب المنفردة»؛ الّتي تنتهج وسائل وأساليب عمل بدائيّة غير المتوقع. وهذا يزيد من صعوبة الكشف عن أعمالهم أو توقعها من قِبل هيئات مكافحة للإرهاب.
وبالوصول إلى هذه النقطة فإنّ هذا «الإرهاب منخفض التكلفة»، الذي ليس له أيّ هدف سياسي، واستحق بجدارة وأكثر من أي وقت مضى وصف «الأعمى»- تَمَكّن من ترويع الناس، وبث الرعب في قلوبهم بشكل غير مسبوق.
ولأنّ هذا النوع من الترويع الموصوف بـ«الإرهاب البدائي»، والذي صبغ بالارتجال والهواية، يتدخل في كل تفاصيل حياة الناس، ويستهدف شؤونهم اليومية، ويهدد بشكل لم يحدث من قبل الحرية والعفوية اللتين تميزان أسلوب الحياة الغربي.
ومع ذلك، فإنّ تأثير تعامل داعش بأساليب بغيضة وكريهة كأوبرة الجهاديين، لإرهاب الناس كان بمثابة سلاح ذي حدين أساء لهذا التنظيم؛ ففي الوقت الذي زادت فيه قوة إزعاج أذرعه الأجنبيّة عشرة أضعاف، فإنّ ذلك أسهم إلى حدٍّ كبير في تضييق الخناق حول خلافته المزعومة.
والواقع أنّ قوّة الازعاج الداعشي المتزايدة الَّتي شنّت الحرب على الغرب سرعان ما أفسحت المجال لترك الاختلافات في الآراء، والتّكالب على المصالح التي كانت تمزق القوى العظمى الإقليميّة والعالميّة منذ اندلاع الأزمة السوريّة.
وهكذا وُلد إجماع دوليّ واسع النطاق، يَعتمد على ضرورة قيام معركة ضد داعش قبل ما تنمو مخالبها لسفك الدماء، وبثّ الرعب في القلوب بارتكاب هجمات جديدة مدوية وواسعة النطاق.
وفي 15 نوفمبر 2015م، يومين فقط بعد هجمات باريس، أطلقت عشرات الطائرات الحربيّة الفرنسيّة، وللمرة الأولى، غارات مُكَثَّفة على مُعَسكرات ومراكز قيادة وتدريبيّة لداعش في قلب الرِّقة، عاصمة الخِلافة الزّائفة.
ومنذ ذلك الحين، يقوم ائتلاف مُكَوّن من دول عدّة غربيّة وعربيّة بشنّ هجمات جويّة ضد معاقل داعش في سوريا والعراق، في حين كانت هذه الغارات في السابق تقتصر فقط على الجزء الّذي كانت تحتلّه داعش من الأراضي العراقيّة.
وفي 15 ديسمبر 2015 أعلنت المملكة العربيّة السعوديّة بمباركة كلٍّ من الولايات المتّحدة وفرنسا تشكيل تحالف من 34 دولة مُسْلمة أعلنت استعدادها لإشراك قوّاتها البرّيّة في الحرب على داعش؛ لتعزيز غارات التّحالف الدّوليّ، وذلك في ظلّ الإحجام الغربيّ عن إرسال قوات على الأرض لطرد التنظيم ممّا تبقّى له من معاقل في سوريا والعراق، وتحطيم ما يُسَمَّى دولة الخلافة المزعومة.
وعلى جانب آخر، نجد أنّ دخول روسيا الحرب، الّذي تم الإعلان عنه رسميًّا في 30 سبتمبر 2015، قد أسهم في توجيه ضربات أكثر قسوة لداعش في سوريا، ويعود الفضل في ذلك إلى الغارات الجويّة الّتي تمّ تنفيذها بالتعاون الوثيق مع القوات البريّة للجيش النظاميّ السوريّ، بدعم من حزب الله اللبنانيّ وميليشيات الحرس الثّوري الإيراني.
ويتزايد عدد الخبراء والسياسيّين والعسكريّين الّذين يتوقعون انعكاس الأوضاع في سوريا مع بداية العام 2016، وهو الأمر الذي من شأنه أن يؤدي -في نهاية المطاف- إلى انفجار فقاعة داعش، وتدمير ما يُطلق عليه الخلافة. وتبدو هذه التوقعات ذات مصداقيّة كبيرة، فبعد أشهر طويلة من السلبيّة والحسابات التكتيكيّة الّتي كانت تهدف إلى تخفيض أسعار النفط- قَرّر التحالف الدولي، الذي تقوده الولايات المتحدة، أخيرًا ضرب مصادر تمويل الخلافة الداعشية، واستهداف مواردها النفطية.
وهكذا تمّ تدشين عملية «الموجة العارمة 2»، في 15 نوفمبر / تشرين الثاني 2015، من خلال سلسلة من الضربات التي دمّرت 116 شاحنة – صهريج تحمل موادّ بتروليّة مهرّبة، لصالح داعش، في منطقة بوكمال السوريّة، على الحدود العراقيّة.
وبالاستهداف المنتظم لتلك القوافل التي تنقل نفط داعش إلى تركيا المجاورة، خفض التحالف الدولي بشكل كبير الموارد المالية للخلافة الزائفة؛ ما حرمها من موجة هائلة من النفط، والتي كانت تجلب لها أكثر من مليوني دولار في اليوم الواحد.
تم إنهاك داعش ماليًّا، وتعددت هزائم التنظيم العسكرية، كما بدأت أراضي ما يُسمى بالخلافة في الانكماش السريع بشكل مُطّرد وفقد التنظيم على التوالي مناطق: كوباني (27 يناير2015) وتكريت (31 مارس) وجبل سنجار (12 نوفمبر) والرّمادي (28 ديسمبر) والشدادي ( 19 فبراير 2016) وتدمريوم (27 مارس) والفلوجة (يوم 26 يونيو / حزيران) ودابق (يوم 16 أكتوبر).. حتى تمّ تحرير الموصل في 9 يوليو 2017، وهي المدينة الّتي كان سقوطها في حزيران / يونيو 2014 بداية لتأسيس الخلافة الداعشيّة في العراق.
واستمرّت هزائم داعش في تل عفار والحويجة في العراق ودير الزور في سوريا. ثم جاء استرداد الجيش العراقي لمركز القائم الحدودي ، وهو أمر ذو دلالة رمزيّة كبيرة، فقد كان تدمير هذا المركز من قِبل داعش هو العمل المؤسّس لما يُسمى بالدّولة الإسلاميّة والّذي كان التنظيم يطمح من خلالة إلى إلغاء الحدود الموروثة من اتفاقات "سايكس بيكو" لإعادة الخلافة.
ثم جاء استرداد الرّقة عاصمة داعش المعلنة، وبذلك تمّ الانتهاء من تقطيع أواصل دولة الخلافة المزعومة لداعش؛ ما جعل انفجار فقاعة داعش أمرًا لا مفرّ منه، هذا الانفجار أزاح همًّا كبيرًا بطبيعة الحال، ولكنّه لم يجلب سوى الأخبار الجيدة فقط.
إنّ تدمير ما يُطلق عليه اسم الخلافة هو بلا شك عنصرًا حاسمًا إذا أردنا استعادة السلام، واحتواء مخاطر الحروب الأهلية في العراق وسوريا وليبيا.
أما على صعيد التهديد الإرهابيّ المُعَوْلم، فسيكون لتفكّك داعش تأثير مختلف تمامًا. فككل التنظيمات الجهادية التي سبقته منذ الحرب ضد السوفييت في أفغانستان (1979 - 1989)، سينتقل فيلق داعش الأجنبي بعد خسارة أراضيه من مرحلة التدفق إلى مرحلة الارتداد.
شهدت المرحلة الأولى تدفق عشرات الآف المُرشحين للجهاد من جميع الدول، ابتداء من صيف عام 2014؛ للانضمام إلى ما يُسمى بالخلافة. ثم أدى تدمير "حاضنة" داعش في العراق وسوريا إلى الدّخول في مرحلة جديدة، وهي مرحلة الارتداد؛ حيث توقف تمامًا تدفّق الجهاديين إلى العراق وسوريا، لتحل محله هجرة عكسيّة للجهاديين الّذين نجوا من الضربات العسكريّة، بحثًا عن ملاجئ جديدة، للهروب من مطاردة الشرطة الّتي هجمت عليهم.
وفي هذا الملف يتنبأ اثنان من الجهاديّين السّابقين بالأسوأ الذي يمكن أن يحدث في البلاد الأصلية لهؤلاء الجهاديين، النّاجين في حقبة ما بعد داعش:
- موجة زحف "الأفغان العرب " التي سفكت الدّماء في العديد من الدّول العربيّة، مثل الجزائر ومصر واليمن، في أوائل التسعينيات، عندما أجبر الجيل الأول من قدامى المحاربين الجهاديين على مغادرة أفغانستان بعد نهاية الجهاد ضد السوفييت واندلاع الحرب الأهلية بين فصائل المجاهدين الأفغان.
- موجة الجهاديّة الجديدة التي ضربت العالم العربي وأوروبا بعد تدمير معاقل القاعدة في أفغانستان في أعقاب هجمات الحادي عشر من سبتمبر 2001، الّتي شهدت ظهور أول جيل من الجهاديين الأوروبيين أو ما يُطلق عليهم «الأمراء ذوو العيون الزرقاء»، وقد قام هؤلاء الجهاديون بتنفيذ سلسلة طويلة ودموية من الهجمات: جربة (أبريل 2002)، الدار البيضاء (أيار / مايو 2003)، مدريد (آذار / مارس 2004) ولندن (تموز / يوليو 2005).
ويرى المراقبون أن «الإرهاب منخفض التكلفة» له قوة إزعاج مرعبة، لقد أتاحت سياسة "الأوبرة" الّتي انتهجتها داعش (يطلق هذا اللفظ على مجموعة من الأنظمة الجديدة في الاقتصاد التي تسمح للمنتجين والزبائن بالتواصل تلقائيًّا باستخدام التقنيات الحديثة) – سمحت - لبضع عشرات من الجهاديين الجدد الّذين عادوا إلى أوروبا بشن هجمات دموية كهجمات باريس وبروكسل ولندن وبرشلونة.
إن ما يمكن أن يحدث في ضوء عودة آلاف الجهاديين، ذوي الأصول الأوروبية إلى القارة القديمة بعد انفجار "فقاعة" داعش- يرعب الحكام وأجهزة مكافحة الإرهاب الأوروبية.