قداسة أماكن العبادة في الرسالات السماوية ... آيا صوفيا الحائرة
الإثنين 20/يوليو/2020 - 03:45 م
طباعة
نواجه على المستوى العالمي في عصرنا الحاضر إشكالية كبرى.. تلك الاشكالية المرتبطة بتنامى ظاهرة إختلاط الدين بالسياسة، الأمر الذي يفرض علينا إعمال الفكر.. واستخدام المنطق في قراءة وفهم والحكم على الامور بحكمة وعقلانية وتروي.
فلقد أثار قرار الرئيس التركي تحويل متحف آيا صوفيا في أستانبول إلى مسجد، ردود فعل متباينة على المستويين الدولي والعربي. كما فتح مصير هذا المعلم التاريخي أبواباً من الجدل تجاوزت الشارع التركي لتشغل الشارعين العربي والغربي على حد سواء.
لقد تخطى الأمر نطاق النقاش والجدل ليتحول إلى مبارزة سياسية مجتمعية دينية حول دور العبادة في الأديان بشكل عام في مشهد أعاد للأذهان أجواء الخطاب البغيض الذي كان سائداً في القرون الوسطى.. والذي كان يعبر عن حالة الخوف والشك والتوجس في الآخر بشكل عام وبلا تفكير، الأمرالذي يتعارض بشكل فج مع مبادرة حوار الحضارات وقبول الأخر.
وقبل الحديث عن تداعيات قرار تحويل متحف آيا صوفيا إلى مسجد دعونا نلقي نظرة موجزة على تاريخ هذا المبنى.. في عام 532م. أمر الإمبراطور البيزنطي جستنيان الأول ببناء الكنيسة في القسطنطينية " إستانبول حالياً " واستغرق بناءها خمس سنوات..
في إشارة إلى النبي سليمان الذي كان يسخر الجن لإقامة الأبنية العظيمة. وعندما تم فتح القسطنطينية، تحولت الكنيسة الى مسجد وظلت كذلك حتى تأسيس الجمهورية التركية على يد كمال اتاتورك والذى بدوره حول كنيسة آيا صوفيا الى متحف لتظل على ذلك الحال حتى أوائل شهر يوليو من العام الجاري حين أمر الرئيس التركي بتحويلها الى مسجد.
تعني كلمة آيا صوفيا "الحكمة الإلهية" باللغة اليونانية، وقد أراد الأمبراطور جستنيان الأول عبر تشييدها إظهار وإستعراض تفوقه على أسلافه الرومان بتشييد صرح معماري غير مسبوق،
وبعد اكتمال البناء، ذكر المؤرخون أنه من شدة إعجاب الأمبراطور جستنيان به قال لحظة دخوله "يا سليمان لقد تفوقت عليك"،
المنطقة العربية من جهتها رأت من خلال بعض الصحف والمواقع الإخبارية العربية أن قرار تحويل متحف آيا صوفيا إلى مسجد صدر بدوافع سياسية وليست دينية...
وقد أثار قرار الرئيس أردوغان تحويل متحف أيا صوفيا إلى مسجد غضب الكنيسة الأرثوذكسية الروسية، التي اعتبرت القرار قرارا سياسيًا واضحًا، ورأت أنه انتهاك غير مقبول لحرية الدين، على حد تعبير " الأسقف ميتروبوليت إلاريون"، رئيس إدارة العلاقات الخارجية في بطريركية موسكو. كما ندد رئيس الوزراء اليوناني كيرياكوس ميتسوتاكيس بالقرار بأشد العبارات.
وأبرزت صحف مصرية ردود الأفعال التركية المعارضة، ونشرت تقريرا بعنوان " زعيم المعارضة التركية: انقلاب مدني في تركيا". وكتب رجل أعمال مصري شهير تغريدة قال فيها " نبارك لك عداوة مسيحيي العالم كله"، رداً على تغريدة للرئيس التركي التي قال فيها "نبارك لكم جامع آيا صوفيا".
بينما يرى فريق آخر من المحللين العرب " أنه كان أولى بالرأي العام العربي الاهتمام بالقضايا ذات الصلة بحياة الناس، كالمشكلات الاقتصادية والمعيشية، وارتفاع معدلات الفقر والبطالة. وما تواجهه المجتمعات هذة الأيام من مخاطر وتداعيات جائحة فيروس كورونا وما تسببه من دمار للبشرية.
ورفض الرئيس التركي معارضة قراره قائلاً "توجيه اتهامات إلى بلدنا في مسألة آيا صوفيا هو بمثابة هجوم مباشر على حقنا في السيادة".
أما المعسكر الداعم لقرار أردوغان في المنطقة العربية فقد اعتمد على حالات مماثلة تعرض فيها العديد من المساجد في أوربا للتحويل الى كنائس، قائلين إن جيوش إسبانيا قامت بتحويل معظم المساجد فيها إلى كنائس بعد انتهاء حكم العرب للأندلس.
وفي الحقيقة يجب أن لا نتجاهل التداخل الشديد بين حسابات أردوغان السياسية و قضية صراع الأديان والحضارات، فالقرار يحمل في طياته كثيرا من التداخل بين العوامل السياسية والعوامل الدينية. ولا يخرج هذا القرار عن أوهام أردوغان فى الخلافة والعثمنة والسلطنة واستعراض القوة واستجلاب المليشيات ومخاطبة الوجدان المتطرف.
ففي اليهودية جاء في التوسفتا الملحق بالمشناة "إن للكنس " أى المعابد اليهودية" حرمة كبيرة لا يجوز الاستهتار بها، فهي مكان خاص للعبادة والقراءة والدراسة. ولا يجوز دخولها أيام الصيف هرباً من الحرّ وتفيؤا بظلّها، ولا يجوز دخولها أيام الشتاء هرباً من البرد أو الأمطار، كما لا يجوز الأكل والشرب والنوم والتنزّه فيها، لأنها أماكن مقدّسة مخصصة للعبادة."
إن الأديان لها من القيم والمبادئ المشتركة ما يشكل أساسا صلبًا للتكامل والتحالف بين الحضارات وأهلِها، كما أن الديانات المنزلة هي حلقات في سلسلة واحدة مترابطة يكمل كل منها الآخر، وتحث وتؤكد على إتباع قيم الرحمة والتسامح والإخاء والتعاون وعمارة الأرض، وليس الكراهية والتصارع والتقاتل والمحاربة واستخدام القوة والتعالى على الاخر. وتؤكد على تلك القيم الأخلاقية الرسالات السماوية الثلاث جميعها.
إن تخصيص كل ديانة أماكن للعبادة هو مشترك ديني وإنساني رسخته الديانات على مر العصور، وتحظى هذه الأماكن بقدسيتها داخل كل ديانة.
أما في الديانة المسيحية فلقد كانت بداية العبادة في الهيكل، ثم اتخذت الكنائس على طول التاريخ نظاما وتراتبية وطقوسا روحية دينية جعلت لها مكانة خاصة عند كل مسيحي يقصدها في كل أحواله.. للصلاة والزواج والتعميد، وعند وفاته تؤدى الصلاة عليه في الكنيسة.
( التوبة: 18) وبلغت قداسة المساجد في الإسلام أن سماها رسول الله صلى الـله عليه وسلم بيوت الله، وربطها بالذات العلية.
وتتمتع دور العبادة في الإسلام بمكانتها العظيمة حيث قال تعالى " وَأَقِيمُوا وُجُوهَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ" ( الأعراف 29) وقال سبحانه " إِنَّمَا يَعْمُرُ مَسَاجِدَ اللَّهِ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَأَقَامَ الصَّلَاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَلَمْ يَخْشَ إِلَّا اللَّهَ"
وهكذا ارتبط وجدان كل متدين بدور العبادة والمقدسات الدينية والروحية التي وفرها له
بقلم: ا. د. هدى درويش
أستاذ الأديان بجامعة الزقازيق