المُقدس والمدنّس في الفكر الإسلامي
الأحد 17/يناير/2021 - 11:11 م
طباعة
في الوقت الذي نُسلّم فيه بضرورة إصلاح الفكر الإسلامي لإزالة المغالطات المتراكمة التي يضجّ بها الواقع، والأوهام والخرافات التي علقت به من جراء السكون الفكري وفقدان الثقة بالذات إلا أننا نجد أنفسنا أمام عدّة إشكاليات على مستوى المفهوم والإجراءات تَحُول دون تنامي المسار الإصلاحي.. ومن أخطر تلك الإشكاليات وأكثرها إلحاحا في الوقت الراهن الخلط المستمر بين المقدس وغير المقدس في الفكر الديني المعاصر.
وقد بدأ هذا التشويش بمغالطة، وقع فيها الخطاب الديني عن قصد أو غير قصد، عندما أطلق كلمة "النّص" على كلّ آية قرآنية أو حديث نبوي؛ معقّبا بعدها بقوله: "لا اجتهاد مع النّصّ" في خلطٍ منه بين مفهوم النّص في التراث الفقهي الذي يُراد به قطعيّ الدلالة والثبوت مما لا خلاف فيه مطلقا، ومفهوم النّص عند اللغويين حيث يُطلقون كلمة "نصّ" على كل بنية لغوية كاملة طالت أم قصرت، احتمالية أو قطعية الدلالة، حقيقية أو مجازية، واضحة أو مبهمة، فعندما نصِفُ آية قرآنية أو مرويّة من مرويات الأحاديث الشريفة بأنّها "نصّ" فالمراد المعنى الثاني عند اللغويين، أي أنّها نصّ لُغويّ فحسب؛ وليس المعنى الفقهي؛ لأنّ الحكمة الإلهية اقتضت أن تكون منطقة النصوص قطعية الدلالة والثبوت التي لا اجتهاد فيها ضيقةً جدا، أو "عزيزةً" كما يقول الفقهاء؛ وأن تكون منطقة النصوص احتمالية الدلالة أو الثبوت هي الأكثر شيوعا مما يجعلها ميدانا للاجتهاد والرأي والتأويل.
من جانب آخر حدث خلط بين جوهر الدين وأشكال التدين، فجوهر رسالة الإسلام قواعد ومقاصد تستهدف تحقيق الهداية الإنسانية بتصفية الأرواح، وتخليص العقول من شوائب الاعتقاد بالسلطة الغيبية للمخلوقات، وقدرتها على التّصرف في الكائنات؛ لتَسْلَم من الخضوع والعبودية؛ لمن هو من أمثالها، وهذا يختلف عن أشكال التّدين الذي يدخل فيه جانبٌ من ممارسات المسلمين يُصيبها تغيّر واختلاف تبعاً لتفاوت الفهم بين المسلمين، ويتأثر بالبيئة المكانية والزمنية التي يعيشون فيها، فإطلاق كلمة الدين/ الإسلام على أنماط التدين أدّى إلى تعدد مفهوم الإسلام بتعدد ممارسات المتدينين، التي باتتْ تُوصف على سبيل المثال بالإسلام الجهادي، والإسلام الصوفي، وإسلام الجماعات، وإسلام المؤسسات.. والواقع أنّ إسلام الوحي واحد في رسالته وإن تنوعت أشكال التدين التي منها ما هو مقبول، ومنها ما هو غير مقبول..
يُضاف إلى ذلك، أحد الأخطاء الشائعة في الثقافة الإسلامية المعاصرة وهو إطلاق كلمة "الإسلام" على كلّ ما كُتب حول الوحي من أفكار واجتهادات إنسانية، فلا تطرحه العقلية التقليدية للنقد، وليس ميدانا عندها للتجديد الذي تحصرُه في الجانب الروحي "الإيمانيّ" للمسلمين، لا يتجاوزه بحالٍ إلى الفكر الديني الذي تحوّل بمرور الزمن إلى ثابتٍ لا يجوز الاقتراب منه، وفسّرت العقلية التقليدية الشيء بنقيضه، فالقديم عندها هو الجديد، والتقليد يُرادف التجديد على حدّ قول الدكتور عمر فروخ: "التجديد ليس في الجديد بل هو في القديم الذي يظلّ على الدهر جديدا".
وحيث إنّ القديم هو الغاية فإن التجديد المعرفيّ يكمن عندهم في استظهار مخطوطات القُدامى، وإن سلّمنا بأهمية التواصل مع التراث وإعادة نشره إلا أنّ تحقيق وطباعة بعض المخطوطات - مما لا نحتاج إلى بعضها اليوم من أمثال مخطوطات مفاضلة مذهب فقهي على آخر- أصبح مطلبا انفعاليا عاطفيا يُشعر صاحبه كأنّه يُضيف جديدا، وكان من تداعيات تلك الحالة أن تحوّل طالب العلم الديني إلى متلقٍ يُجيد في أفضل الأحوال تدريس المتون، وفكّ عباراتها المغلقة، أو إضافة بعض الهوامش التوضيحية، وقُتِل الإبداع، وأُصيب الفكر الإسلامي بالضمور، وتراجُعِ النموّ المعرفي، والدورانِ في حلقة مغلقة لا تُطلّ على الواقع، بل تقفز فوق مشكلاته وتحدياته.
وهنا تأتي أهمية القراءة والبحث في كتابات القدامى بفكر نقديّ تحليليّ؛ لإزالة القداسة التي اكتسبتها بالتكرار والترديد، وإعادتها من جديد إلى سياقه كفكر بشري؛ لتناقش الأفكارُ أفكارا بلا أحكام عصمة أو تشويه مُسبقة..
فإننا وإنْ اعترفنا في الخطاب السجاليّ نظريّا بأن ثمّة فارقاً بين "الإسلام" و"تراث المسلمين" إلا أننا لا نميّز بينهما على المستوى العملي سوى تمييز شاحب جدا، فالشواهد تؤكّد أن "التراث" الذي صار هو "الدين" قد تمّ إدماجُه في هيكل "المقدَّس"، كمسوّغ للاستعلاء به، وتقديمه على الحاضر، فتعطّل العقل ونشطت الذاكرة وخبى الفكر وتعرّض إلى التزوير والتشويه، فإطلاق كلمة الإسلام على اجتهادات فقيه أو تأويل مفسر أو تنظير مفكر، ولو على سبيل المجاز، أدّى إلى التباس الفكر الإنساني (الاجتهاد البشري) الذي يتعدد، بالوحي المقدّس (الدين) الذي لا يتعدد في ذاته، وإن قبل تعدد التأويلات والاجتهادات.
فالاجتهاد كمفهوم إسلاميّ هو نسبيّ ومتطور، تنبعُ نسبيّتُه من تنوع روافد الفكر الإسلامي وقابليتها غير المحدودة لمزيد من الكشف والبحث والدراسة، وينبع تطوره من قابلية الفكر الإسلامي إذا التزم بالغايات والمقاصد الأساسية من أن يتطور ويتكامل مع العلوم البشرية، فكلّما تطورت الدراسات النفسية والاجتماعية والحقوقية في العصر الحديث تعيّن على الاجتهاد الفقهي أن يكون حاضرا مواكبا لتطورها.
نحتاج إلى قدر عالٍ من الشجاعة والعلمية، والعمل المستمر كي نُنجز منهجا على درجة كبيرة من الوضوح في تمييز الإلهي المقدس عن البشري غير المقدس في فكرنا المعاصر وتراثنا الديني؛ ليتمكن كلّ شخص، مهما كان مستواه، من استخدامه، دون خوفٍ أو تردد، وأن نرتقي بثقافة العامة إلى مستوى القبول بالرأي الآخر، والسماح بمراجعة الأفكار والمفاهيم التي تشيخ وتفقد دلالتها شيئا فشيئا لصالح دلالة جديدة.
نحتاج إلى أن نُؤكد دوما أن التراث يُمثّل إنجاز عقل الإنسان الاجتماعي التاريخي في محاولته الدائبة لتنزيل معاني الوحي على أرض الواقع والتاريخ، بخلاف "الدين" في نصوصه الأصلية الأساسية التي أكّد الإمام على بن أبي طالب أنها "لا تنطق بذاتها، وإنما ينطق بها الرجال".
فالفكر الديني فكر إنساني شأنه شأن أي فرع من فروع الفكر العام، ليس هو الدين، وإنما هو فكر حول الدين؛ فشأنه شأن الخطاب العام قد يكون خطابا حافزا للتقدم والازدهار، وقد يكون خطابا محافظا يسعي لتأييد الواقع الماثل واعتبار ليس في الإمكان أبدع مما كان، وقد يكون خطابا ارتداديا يفترض إمكانية التماثل التام مع تجربة الماضي التاريخية الاجتماعية السياسية، فيسعي لنزع صفة الزمنية عنها لتتحوّل إلي يوتوبيا يجب تحقيق نموذجها وفرضه علي الواقع الراهن، ولو باستخدام القوه.
فـأي فكر دينيّ يُمكن أن يكون عاملا من عوامل النهوض والتّقدم، كما يُمْكن أن يكون عاملاً من عوامل النكوص والتخلّف، وتاريخ الأديان كلها شاهد على ذلك، فالعامل المؤثر في الحالتين ليس "الدين" في ذاته، وإنما هي الطريقة التي يفهم بها أصحاب الدين دينهم، أي الفكر الديني في سياقه التاريخي الاجتماعي الثقافي.
أخيرا لا سبيل للخروج بالثقافة الإسلامية من حالتها الراهنة إلا ببناء الوعي، فعندما يتبلد الوعي الجمعيّ يُتهم التجديد، ويدخل في دائرة محاربة الدين؛ فإذا تأجَّج الوعْيُ أدركت الأمة الخطّ المائز بين حقيقة الدين والفكر الديني الذي التبس في خطابنا المعاصر بالدّين، وتعالى على النّقد؛ وحينها نفهم جيدا أن الفكر الإسلامي يُمثّل قراءات متعددة للدّين تمت في إطار التاريخ أي ضمن معطيات زمانية ومكانية محددة؛ فهو في حقيقته تراث بشري لا ينفصل عن تاريخيته.