الصراع بين الإسلام والتأسلم
الإثنين 12/مايو/2014 - 10:27 م
طباعة
حسام الحداد
اسم الكتاب: الصراع بين الإسلام والتأسلم
المؤلف: د. رفعت السعيد
دار النشر: الهيئة العامة المصرية للكتاب
سنة النشر: 2013
أحداث العنف وسلسلة التفجيرات التي تشهدها مصر حاليا، والتي أعقبت ثورة 30 يونيو من العام الماضي، ما هي إلا نتاجا طبيعيا لفكر خبيث نبت في مصر منذ أكثر من ثمانين عاما باسم "جماعة الإخوان المسلمون"، والتي أسست بزعم نشر "الدعوة الإسلامية"، لتنشر في المجتمع أفكارا مسممة لأجيال متعاقبة، والبعيدة تمام البعد عن سماحة ووسطية الدين، ليستشري سرطان التأسلم عبر الأنظمة الحاكمة في جسد المجتمع المصري، وتخلق أجيالا مغيبة العقول، مسممة العقيدة ومتطرفة الرأي، عدائية لكل من يخالفها، ويصبح مسلسل الدم، والذي بدأ مع ثورة يناير 2011، لتتصاعد وتيرته لتصل للذروة بعد عزل محمد مرسي، في أعقاب ثورة يونيو، بدعاوى "الجهاد في سبيل الله" و"إقامة إمارة إسلامية"، مبررا لحمل السلاح ليس فقط في مواجهة الدولة وإنما ضد المجتمع المصري ككل، ما نراه أمامنا اليوم وما نشاهده من أحداث ليس إسلاما حقيقيا، القابع في القلب والمتغلغل في الوعي الإنساني، قدر ما هو إلا حجاب ولحية وصلاة أمام الناس متخذة من تلك المظاهر شكلا لتأسلم أصحابها، دون الوصول إلى روح الدين الحقيقة وسماحته.
ولكن كيف وصل حال المجتمع إلى هذا الحد، بل كيف انتشرت تلك العقيدة المسممة ليتبعها آلاف بل ملايين المغيبين من المواطنين، ما مضمون تلك الفكرة الخبيثة، وأهدافها؟، وكيف عمل عليها جماعة الإخوان حتى الآن ؟، وهل ما نراه اليوم إسلاما حقيقيا محله القلب، أم تأسلم محله الشكل؟!
كل تلك الأسئلة يطرحها ويحاول أن يجيب عليها الدكتور رفعت السعيد، استاذ التاريخ ،والمؤرخ المهتم برصد وتحليل تاريخ جماعات الاسلام السياسي وبالأخص جماعة الإخوان المسلمين، والسياسي البارز، ورئيس حزب التجمع السابق، وذلك من خلال كتاب "الصراع بين الإسلام التأسلم"، الصادر عن الهيئة العامة المصرية للكتاب، والذي نشرته العام الماضي 2013، الكتاب يقع في 220 صفحة من الحجم المتوسط، وينقسم إلى عدة أبواب تتناول الفرق بين مفهوم الإسلام والتأسلم، الخلافة العثمانية في مصر وانهيارها، نشأة جماعة الإخوان المسلمين، التأسلم من منظور الجماعة، ودور كتابات سيد قطب شيطان الفكر الإخواني، وفي النهاية يتطرق الكتاب للجماعات التي انبثقت من رحم جماعة الإخوان وأفكارها.
الفرق بين مفهوم الإسلام والتأسلم
في الفصل الأول يستهل دكتور رفعت السعيد كتابه بمحاولة التفريق بين مفهوم الإسلام والتأسلم، فيقول متسائلا: "من هو المسلم الحق؟ ومن هو المتأسلم؟" هذا هو السؤال الذي يواجه الجميع.. والإجابة تتطلب التفريق بين الإيمان الحقيقي وبين المتشدد والمتطرف والمتعصب، ويجيب قائلا: "القرآن نص واحد لا يتبدل، والسنة الصحيحة معلومة ومكتوبة ومعتمدة، إذن لماذا يكون الاختلاف؟ أنه يأتي من الرأي، أي من الفهم الشخصي للقرآن وللسنة. وهنا يتحقق الاجتهاد بالرأي وهو اجتهاد إنساني يحتمل الصواب ويحتمل الخطأ".
ويستكمل السعيد عن أسباب قبول الناس بتأسلم البعض، قائلا: "ذلك من باب الادعاء، فالجاهل يدعي معرفة كل الأمور، ويحاول أن يعطي لكل ما يقوله صبغة دينية حتى يحترمها الناس، ويصدقوها ويتبعونها، إلى جانب تكريس قصص ومعتقدات وخرافات مغلفة بالدين المقدس في العقل الجمعي للمسلمين كي تفسح المجال واسعاً للرضوخ أمام جبروت هذه الكرامات، ويصبح متأكداً أنه سيكون مسلماً بخضوعه لها، وبهذه الطريقة يختفي من فكر المؤمن وقلبه ضوء الايمان العاقل، الداعي بإعمال عقله وإلغاء وظيفته الأولى في التفكير السليم والنقدي، لينقاد مطيعاً خاضعاً مستسلماً لكل ما يقوله له "سيدنا" شيخاً كان أو أميراً للجماعة أو مرشداً للإخوان".
ويعرض السعيد عددا من آراء كبار مفكري عصرنا حول مفهوم التأسلم، والفارق بين الدين والرأي في الدين لعل من أبرزها ما كتبه د. محمود حمدي زقزوق: "من الأفكار المغلوطة لدى الكثيرين الخلط بين الشريعة والفقه الإسلامي، وقد استقر هذا الفهم في أذهان الكثيرين منذ قرون نتيجة لعصور التخلف التي طرأت على المسلمين بعد تراجع الحضارة الإسلامية، والفرق بين الشريعة والفقه مثل الفرق بين السماء والأرض، وبين ما هو إلهي وما هو بشري، وقد أدى هذا الخلط إلى إضفاء طابع القداسة على أراء الفقهاء خروجاً على الدين نفسه وتمسك هؤلاء بإغلاق باب الاجتهاد"، ورأي الإمام المستنير محمد عبده عندما كتب: "أنهم جعلوا كتبهم على علاتها أساس الدين، ولم يخجلوا من قولهم بوجوب العمل بما فيها، فانصرفت الأذهان عن القرآن والحديث وانحصرت في كتب الفقهاء على ما فيها من الاختلال والركاكة".
وهكذا نكتشف أن المسلمين يمضون في طريقين، أحدهما طريق الإسلام الصحيح يتوارثونه ويلتزمون به، وآخر طريق التأسلم يتوارثونه، ليقتاد بعض المسلمين إلى مزيد من التشدد ومزيد من التفسير الخاطئ لحقيقة الشريعة.
مصر .. والخلافة العثمانية
أما عن خلط السياسة في الدين ولبس كل منهما بالآخر فيرجع السعيد السبب تاريخيا إلى مفهوم دولة الخلافة، والتي تغير معناها من أمير للمؤمنين يصرف شئون الناس، دون أن يكون وليا عليهم، وهو المفهوم الذي ظل حتى سقوط الخلافة العباسية، ليتحول مع الخلافة العثمانية إلى جعل خليفة المسلمين وليا وليس معينا على تصريف شئون العباد في الدنيا، وهو ما فسره السعيد في الفصل الثاني من الكتاب فيقول:" كان الالتزام بالانتماء إلى دولة الخلافة العثمانية أداة تتحقق بها قدرة إضافية للنضال ضد خصوم الوطن، ولعل مصطفى كامل ومحمد فريد كانا النموذج لذلك، وظهر ذلك في نص الوثيقة الثانية التي نشرها السعيد في الكتاب، والتي كتبها عبد المجيد عبد العزيز خان إلى سعد زغلول باشا والتي تنص: " أن مقام الخليفة الذي أسمى نفسه أمين المؤمنين، خاقان البرين والبحرين وحامي حمي الإسلام والمسلمين لم يكن بذاته يمتلك أية قيمة فعليه لدى الكثيرين مادام قد تجرد من القوة والنفوذ والسلطان، بما يؤكد أن موضوع الخلافة كان بذاته موضوعاً سياسياً وليس دينيا، فإن أحداً لم يهتم بهذا المسكين الذي أصبح متسولاً وبدأ البعض في محاولة اقتناص المنصب لنفسه وأولهم كان الملك فؤاد... ؟إلخ".
يقول السعيد: "من الخطاب يتضح أن حاشية الملك والقائمين في قصر الخليفة العثماني يعلمون أن الخلافة لم تكن لها أي دور ديني، وإنما تم اصباغ الخليفة بها لتحقيق أهداف سياسية، وهو الأمر الذي أوضحه الإمام محمد عبده في الجزء الثاني من الأعمال الكاملة، حيث رفض عبده من حيث المبدأ القول بوجود خليفة يتحدث باسم السماء قائلاً: «إن السيادة قسمان: سيادة عليا يختص بها الله تعالى، وسيادة أقل درجة يختص بها الشعب وعليه ممارستها، ومن هذه السيادة تكتسب الأمة شرعية دورها كمصدر للسلطة أمام الحاكم فيستمد سلطته من الشعب ثم يقول» ومن الضلال القول بتوحيد الإسلام للسلطتين المدنية والدينية فهذه الفكرة خطأ محض ودخيله على الإسلام ومن الخطأ القول أن السلطان هو مقرر الدين وواضع أحكامه ومنفذها، فليس من الإسلام ما يسمى عند قوم بالسلطة الدينية أو المؤسسة الدينية»".
جماعة الإخوان وتسيس الدين
يحلل الدكتور السعيد ما وصلنا إليه الآن، ويفند من خلال الكتاب فكر حسن البنا، مؤسس جماعة الإخوان المسلمين، الذي أنشأها عام 1928، ومنهج وفكر قياداتها ومفكريها، ورؤيتهم لمفهوم الوطن والخلافة والإسلام، لنستطيع فهم حقيقة التغير الحادث في مصر، فيقول: "يعد تأسيس الجماعة بداية لربط السياسة بالدين في العصر الحديث، أو بالدقة اتخاذ الدين ستاراً لفعل وتنظيم سياسي في جوهره، وقد أدى ذلك إلى محاولات إيجاد مبرر فقهي لما لا يمكن تبريره وفق التعاليم الصحيحة للإسلام، ليبدأ ما يسمى بالـ"تفيقه"، أي ادعاء معرفة الفقه، وهو الفصل الذي شرح فيه السعيد رسائل البنا، والذي يوضح فكر الجماعة ومؤسسيها.
بالتدقيق في رسالة حسن البنا، التي وجهها إلى الأمة في كتابه – مذكرات الدعوة والداعية – يقول البنا: "إن الأمة مصابة من ناحيتها الفكرية بالفوضى والمروق والإلحاد، ما يهدم عقائدها ويحطم المثل العليا في نفوس أبنائها في ناحيتها الاجتماعية بالإباحية في عاداتها وأخلاقها والتململ من الفضائل الإنسانية التي ورثتها من الغر الميامين من أسلافها، إن التقليد للغرب يسرى في مناحي حياتها سريان لعاب الأفاعي فيسمم دماءها ويعكر صفو صفائها۔ بالقوانين الوضعية التي لا تزجر مجرما ولا تودي معتديا ولا ترد ظالما ولا تغني يوما عن القوانين السماوية، وهكذا تخرج الأمة من صفوف المجاهدين إلى صفوف اللاهين اللاعبين".
ليحدد البنا فيما بعد واجبات المجاهد من وجهة نظره ليعددها 38 واجباً، لم يورد فيها التعمق في دراسة التفسير أو الفقه وإنما الواجب فيقول موجها كلامه لأتباع:" عليكم بمقاطعة المحاكم الأهلية وكل قضاء غير إسلامي، كذلك الأندية والصحف والجماعات والمدارس والهيئات التي تناهض فكرتك الإسلامية مقاطعة تامة.
ويرسم البنا خلال رسائله نهج جماعته، وذلك بعدما ألح مؤيدوه في أن يؤلف كتابا فقهيا فيرد قائلا: "دعوني من تأليف الكتب فالمكتبة الإسلامية متخمة بالمؤلفات، ومع ذلك فإنها لم تفد المسلمين شيئاً حين قعدت هممهم وثبطت عزائهم وركنوا إلى الدعة والخمول والوقت الذي أضيعه (لاحظ لفظ أضيعه) في تأليف، كتاب استغله في تأليف مائة شاب مسلم يصير كل منهم كتابا حيا ناطقا أرمى به بلدا من البلاد فيؤلفها كما ألف هو".
ليمهد من خلال الرسالة السابقة الحل الذي رآه دواءً لمشاكل المجتمع حيث نشر في مجلة النذير في رمضان 1357هـ: "وما كانت القوة إلا كالدواء المر الذي تحمل عليه الإنسانية العابثة المتهالكة تحمل عليه حملاً ليرد جماحها ويكسر جبروتها وطغيانها، وهكذا كانت نظرية السيف في الإسلام۔ ولم يكن السيف في يد المسلم إلا كالمشرط في يد الجراح لحسم الداء الاجتماعي".
وهي الدعوة التي أكد عليها عبد الرحمن الساعاتي، والد البنا عندما وجه رسالة شديدة اللهجة لرجال الجماعة، في منتصف الثلاثينيات قال فيها: "استعدوا يا جنود وليأخذ كل منكم أهبته، ويعد سلاحه، ولا يلتفت منكم أحد، أمضوا إلى حيث تأمنون، وخذوا هذه الأمة برفق فما أحوجها إلى العناية والتدليل، وصفوا لها الدواء فكم على ضفاف النيل من قلب يعاني وجسم عليل، واعكفوا على إعداده في صيدليتكم، ولتقم على إعطائه فرقة الإنقاذ منكم، فإذا الأمة أبت فأوثقوا يديها بالقيود وأثقلوا ظهرها بالحديد، وجرعوها الدواء بالقوة، وإن وجدتم في جسمها عضواً خبيثاً فاقطعوه أو سرطاناً خطيراً فأزيلوه، استعدوا يا جنود فكثير من أبناء هذا الشعب في آذانهم وقر في عيونهم عمى (النذير – العدد الأول – أول محرم – 1357هـ – الافتتاحية).
لتكون هذه الكلمات بمثابة الدعوة التي انتظرها رجال الجماعة ليستجيبوا لها من خلال إنشاء منظومة سرية أقامها حسن البنا، أو ما عرف بـ"النظام الخاص"، تولى مسئوليته محمود عبد الحليم، خلفه فيها عبد الرحمن السندي وقد أستند هذا الجهاز إلى أفكار غاية في التطرف مستمدة من فكر البنا ووالده.
وللإخوان طقوس لضم أعضاء جدد في ذلك التنظيم، حيث يبدأ عضو الجهاز الخاص بالبيعة، يدخل غرفة مظلمة ويجلس على بساط في مواجهة أخ في الإسلام مغطى جسده تماماً برداء البيض ثم يخرج من جانب مسدساً ويطلب من المبايع أن يتلمسه وأن يتحسس المصحف الشريف ثم يقول له فإن أنت خنت العهد أو أفشيت السر، فسوف يؤدي ذلك إلى إخلاء سبيل الجماعة، منك (أي قتلك) ويكون مأواك جهنم وبئس المصير (محمود الصباغ – حقيقة التنظيم الخاص – ودوره في جماعة الإخوان – ص 132).
ويكمل السعيد رواية الصباغ: "يمضي محمود الصباغ ليغطي لنفسه وأعضاء جهازه الحق في القتل المباشر دون إذن من أحد فيقول إن أعضاء الجهاز يمتلكون الحق في اغتيال من يشاءون من خصومهم السياسيين فكلهم قارئ لسنة رسول الله في إباحة اغتيال أعداء الله، ويزعم أن الرسول أباح اغتيال مخالفيه وهو عكس الحقيقة وهو يعتبر أن أعداء «الدعوة الإخوانية» أعداءً للإسلام، بل أن الصباغ يقول «إن قتل أعداء الله (أي خصوم الجماعة بمنطقه هو) غدرا من شرائع الإسلام، ومن خدع الحرب فيها أن يسب المجاهد المسلمين، وأن يضلل العدو بالكلام حتى يتمكن منه فيقتله".
سيد التكفريين "قطب"
يأتي في فصل جديد من الكتاب دور قطب وما أحدثه من تطور تكفيري في منهج الجماعة، حيث اعتبره السعيد أحد ألغاز الجماعة التي لم يتم فك طلاسم غموضها حتى الآن، فمن تأييد جمال عبد الناصر وحثه على التعامل بديكتاتورية مع المجتمع، ومن استاذ النقد الفني والبلاغة إلى أحد أقطاب الفكر الإسلامي لدى جماعة البنا، فكيف هذا التحول!!
ويعرض السعيد رؤية قطب للمجتمع عندما قال في كتابه "الظلال": "كل مجتمع كان ولا يزال يعد من أهل الكتاب كالمجتمعات الرأسمالية، أيضاً المجتمعات التي خلفت المجتمعات اسلامية وورثت أرضها وديارها وأسماءها، تدخل في إطار المجتمع الجاهلي لأنها تزعم أنها مسلم، لأنها لا تدين بالعبودية لله وحده في نظام حياتها فهي وإن لم تعتقد بألوهية أحد إلا الله، تعطي خصائص الألوهية لغير الله، فتدين بحاكميه غير الله، وتتلقي من هذه الحاكمية نظامها وشرائعها وقيمها وموازينها وعاداتها وتقاليدها، إن الشرك بالله يتحقق مجرد إعطاء حق التشريع لغير الله من عباده، ولو لم يصحبه شرك في الاعتقاد بألوهيته، ولو قدمت الشعائر التعبدية له وحده".
يحدد قطب في جزء آخر من الكتاب مشكلة الحركات الإسلامية قائلا: "إن المشقة الكبرى التي تواجه حركات الإسلام الحقيقية تتمثل في وجود أقوام من الناس من سلالات المسلمين، في أوطان كانت في يوم من الأيام داراً للإسلام يسيطر عليها دين الله وتحكم بشريعته، ثم إذا هذه الأرض، وإذا هذه الأقوام تهجر الإسلام حقيقة وتعلنه أسماً، إذا هي تتنكر لمقومات الإسلام اعتقاداً وواقعاً وإن ظنت أنها تدين بالإسلام اعتقاداً".
ثم يرسم قطب كيفية التعامل مع هذه المشاكل وكيفية التعامل مع هذه المجتمعات فيقول: "إن هناك داراً واحدة هي دار الإسلام، التي تقوم فيها الدولة المسلمة فتهيمن عليها شريعة الله وتقام فيها حدوده، وما عداها دار حرب، علاقة المسلم بها إما القتال أو المهادنة على عهد أمان، ومن يدرك طبيعة هذا الدين يدرك حتمية الانطلاق الحركي الإسلامي في صورة الجهاد بالسيف إلى جانب الجهاد بالبيان، ذلك أن الإسلام لا يقبل أنصاف الحلول مع الجاهلية، فإما إسلام وإما جاهلية ووظيفتنا هي إقصاء الجاهلية، ثم يتحدى «إننا لن نتدسس لهم بالإسلام، بل سنكون صرحاء معهم، هذه الجاهلية التي أنتم فيها بخس، والله يريد أن يطهركم، وهذه الأوضاع التي أنتم فيها خبث، هذه الحياة التي أنتم فيها دون، والله يريد أن يرفعكم، ويوجه حديثه إلى كل مسلمي العالم هذا ليس إسلاماً، ولستم مسلمين والدعوة اليوم إنما ترد هؤلاء الجاهلين إلى الإسلام، ولتجعل منهم مسلمين من جديد".
لتتضح لنا أن الفكرة المحورية عند سيد قطب هي الوصول إلى الحكم بالقوة، ويرى السعيد أن القوة التي أرادها قطب في رسالته قوة غاشمة، مؤهلة لقتل الآلاف ولتدمير مساحات كبيرة من الوطن، دون أن يطرف له جفن، فالناس جميعاً فيما عدا من انضم إلى جماعته كفار، وكلمة وطن لا تعني شيئاً بالنسبة إليه إنه مجرد "حفنة من تراب".
في الفصل الأخير يقدم لنا السعيد نماذجاً خرجت من رحم جماعة الإخوان، مؤمنة بعقيدة البنا ومن وراءه سيد قطب، لتخرج لنا جماعات أكثر تطرفا وتزمتا من الجماعة الأم، كارهين للمجتمع ونظامه، رائين من أنفسهم ولاة على الناس، وظهرت جماعات جديدة تناصب المجتمع عداءً على عداء، حاملين في قلوبهم كرها أكثر من سابقيهم، ليظهر في المجتمع المصري تنظيمين هما "التكفير والهجرة"، و"الفنية العسكرية"، وعلى الرغم من أن شكري مصطفى مؤسس التكفير والهجرة سبق صالح سرية في تأسيس جماعته، إلا أن الثاني سبقه في الظهور إعلاميا من خلال تنظيم الفنية العسكرية، معتقدين وفقا لمذكرات صالح سرية: "أن الحكم القائم في جميع بلاد الإسلام هو حكم كافر، والمجتمعات كلها مجتمعات جاهلية، والحكومة التي تحارب وتتعقب وتسجن وتعدم أعضاء الجماعات الإسلامية لا شك كافر، وأن من ينفذ أوامر تلك النظم أو الحكومات سواء كان مخبراً أو شرطياً أو ضابطاً أو قاضياً أو صحفياً كافر، وكل من ينفذ أوامرها عن طواعية ورضاء ودون إنكار كافر. وأقول هنا إن هؤلاء الزعماء قد يكونون متدينين بالمعنى التقليدي يصومون ويصلون ويقرأون القرآن بخشوع لكنهم كفار لأنهم آمنوا بجزء من الإسلام وكفرا بباقي أجزائه"!!
في نهاية الأمر نجد أن ما نراه اليوم من استهداف للمدنيين واستهداف أجهزة الدولة من قضاة وشرطة وجيش، جزءا أصيلا في أدبيات تلك الجماعة، وروافدها، وما نراه اليوم من أحداث ما هو إلا تسلسلا منطقيا لفكر عاش وتنامى بين الناس، مستغلين بساطتهم والتماسهم لأي كلمة تقربهم من الله، ومن فقر معيشتهم ليضلوا عددا كبيرا منهم، ويحولوا شباب كثير من البسطاء إلى قنابل موقوتة قابلة للانفجار من أجل "إمارة متأسلمة" على نهج أفغانستان.