عبدالرحيم علي يكتب.. حرية الرأي والتعبير في الإسلام «3»
الخميس 06/فبراير/2020 - 08:26 م
طباعة
الله أعطى الإنسان الخيار بين أن يؤمن أو يكفر ومنحه العقل الذى يقرر به
الله تعالى لم يستنكف النزول بالحوار إلى مستوى عقلية البشر ليقيم عليهم الحجة
القرآن يرفض ما يسمى –الآن– حروب التوسع العدوانية
الإسلام يعلي من شأن الحوار ويجعله مدخلًا لصحة العقيدة
المسلمون مأمورون بعدم المبادرة إلى القتال إلا إذا كان ردًّا لعدوان وقع عليهم
الإعراض وسيلة للمقاومة أمر بها الله صراحة في العديد من الآيات
المبدأ القرآني في الحوار يقوم على الحكمة والموعظة الحسنة
طوق النجاة لكل إنسان في الإسلام «السلام عليكم».. فإذا قالها حقن دمه
أثار السجال بين الدكتور أحمد الطيب، شيخ الجامع الأزهر، وبين الدكتور محمد عثمان الخشت، رئيس جامعة القاهرة، جدلًا واسعًا بعد أن فُهِمَ من طريقة رد الإمام أن قضية التجديد لا تخص أحدًا إلا الأزاهرة، وبدا أمام الجمهور أن فضيلته يغلق باب الاجتهاد على المفكرين والمثقفين من غير خريجي الأزهر، في وقت تحتاج فيه البلاد إلى كلِّ صاحب فكر، وكلِّ من يؤمن بضرورة إعمال العقل.
وقد فتح هذا السجال الباب لحوار مخلص وصادق وأمين يبتغي خير هذه الأمة، ورصد كل ما يحقق إعلاء شأن العقل، ويمنح للفكر حريته وللإنسان كرامته.. وقد بدأنا هذه السلسلة، منذ عدد الثلاثاء، تحت عنوان «حرية الرأي والتعبير».. ونواصل ما بدأناه على مدى عدة أيام مقبلة، والله من وراء القصد وهو يهدي السبيل.
بسم الله الرحمن الرحيم «فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ» صدق الله العظيم.
ما أكثر الآيات القرآنية التي تعلي من شأن الحوار، وتجعل منه مدخلًا أساسيًّا لإقامة الحجة والبرهان على صحة العقيدة وصدقها.
إن الله تعالى يحتكم إلى العقل الإنساني في إثبات زيف الادعاءات الضالة، ويتردد في القرآن قوله تعالى «أفلا تعقلون».. «أفلا تبصرون».. «لعلكم تعقلون».. «أنى تؤفكون».. وأن يحتكم رب العزة للعقل البشري، فإن هذا فيه تكريم لهذا العقل، واعتراف ضمني من الله بأنه هو منبع حرية الإرادة.. هذا في الوقت الذي تطالبنا فيه المؤسسات الكهنوتية بتعطيل وحجب التفكير، ومصادرة حق المناقشة لعقائدها وأفكارها.
أدلة عقلية يستشهد بها الخالق جل وعلا على أنه الإله الذي لا إله معه، ويرد بهذه الأدلة على آراء بعض مخلوقاته من البشر الذين يعتقدون بوجود آلهة أخرى مع الله.. ولولا أن الله تعالى قرر لهم حرية التفكير وحرية الاعتقاد والرأي ما سمح لهم بأن يعتقدوا تلك الاعتقادات التي تسيء إلى جلال الله، ولولا أن الله تعالى ضمن لهم هذه الحرية في دينه ما أجرى معهم هذا الحوار، وما احتكم إلى عقولهم في إثبات فساد تلك العقائد.
والله تعالى لم يستنكف أيضًا أن ينزل بالحوار إلى مستوى عقلية البشر كي يفهموا ويعقلوا وتقوم عليهم الحجة، فمثلًا، كانت لبعض أهل الكتاب تصورات عن إبراهيم، وأنزل الله تعالى الرد عليها فقال: «يا أهل الكتاب لم تحاجون في إبراهيم وما أنزلت التوراة والإنجيل إلا من بعده أفلا تعقلون، ها أنتم حاججتم فيما لكم به علم فلِمَ تحاجون فيما ليس لكم به علم والله يعلم وأنتم لا تعلمون». آل عمران/٦٦:٦٥.
إن في ذلك أعظم تقدير لحرية البشر، وأي تقدير أعظم من أن ينزل الخالق جل وعلا قرآنا يرد به على آراء لبعض مخلوقاته، ويقنعهم في الوقت الذي يستطيع فيه أن يدمر الأرض والسماوات.. ولكن بعض المخلوقات أعطت لنفسها امتيازات تفوق ما نتخيله، ولذلك فهم يستنكفون من الرد على خصومهم في الرأي، ويكتفون بإعلان كفرهم واستحلال دمائهم، والمقارنة فظيعة.. الله تعالى يرد على دعاوى بعض خلقه بالأدلة العقلية، والكهنوت يستكبر عن النقاش مع أناس ينتمون مثله لآدم المخلوق من تراب(١).
إن الله تعالى لم يستنكف أن يسجل آراء خصومه التي لا تخرج عن السباب، والتطاول وسوء الأدب.
«وَقَالَتِ الْيَهُودُ يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ، غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ وَلُعِنُوا بِمَا قَالُوا، بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ يُنْفِقُ كَيْفَ يَشَاءُ، وَلَيَزِيدَنَّ كَثِيرًا مِنْهُمْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ طُغْيَانًا وَكُفْرًا، وَأَلْقَيْنَا بَيْنَهُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ إِلَىٰ يَوْمِ الْقِيَامَةِ، كُلَّمَا أَوْقَدُوا نَارًا لِلْحَرْبِ أَطْفَأَهَا اللَّهُ، وَيَسْعَوْنَ فِى الْأَرْضِ فَسَادًا، وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ». «المائدة/٦٤».
«قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِيَاءُ، سَنَكْتُبُ مَا قَالُوا وَقَتْلَهُمُ الْأَنبِيَاءَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَنَقُولُ ذُوقُوا عَذَابَ الْحَرِيقِ». «آل عمران/١٨١».
وقال فرعون للمصريين: «وَقَالَ فِرْعَوْنُ يَا أَيُّهَا الْمَلَأُ مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلَٰهٍ غَيْرِى فَأَوْقِدْ لِى يَا هَامَانُ عَلَى الطِّينِ فَاجْعَلْ لِى صَرْحًا لَعَلِّى أَطَّلِعُ إِلَىٰ إِلَٰهِ مُوسَىٰ وَإِنِّى لَأَظُنُّهُ مِنَ الْكَاذِبِينَ». «القصص/٣٨».
«فَقَالَ أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلَىٰ». «النازعات/٢٤».
كان من الممكن أن يصادر الله تعالى هذه الأقوال فلا نعلم عنها شيئًا، وبعضها قيل في عصور سحيقة قبل نزول القرآن، ولولا القرآن ما علمنا عنها شيئًا.
إن المبدأ القرآني في الحوار يقوم على الحكمة والموعظة الحسنة، والرد على إساءة الخصم بالتي هي أحسن، وليس بمجرد الحسنى.. يقول تعالى: «ادْعُ إِلَىٰ سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ، وَجَادِلْهُم بِالَّتِى هِيَ أَحْسَنُ، إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَن ضَلَّ عَن سَبِيلِهِ، وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ». «النحل/١٢٥».
على النقيض تمامًا مما يذهب إليه البعض ممن أساءوا فهم رسالة الإسلام، سواء من غير المسلمين أو نفر من أهل الإسلام المتشنجين والمتعنتين، فإن القرآن الكريم يرفض ما يسمى –الآن– حروب التوسع العدوانية، ومثل هذا النمط من الحروب مرفوض ومدان، بل ومحرم طبقًا للنص القرآني، ذلك أن الهدف الأسمى من الجهاد في الإسلام هو حماية المستضعفين، وإتاحة الفرصة لهم للإيمان عن قناعة ودون إجبار: «وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّىٰ لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ لِلَّهِ، فَإِنِ انتَهَوْا فَلَا عُدْوَانَ إِلَّا عَلَى الظَّالِمِينَ». (البقرة – ١٩٣).
والمسلمون مأمورون بعدم المبادرة إلى القتال، إلا إذا كان ردًّا لعدوان وقع عليهم، فالله سبحانه لا يحب المعتدين.. «وَقَاتِلُوا فِى سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ وَلَا تَعْتَدُوا، إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ». (البقرة – ١٩٠).
فالهدف في البداية واضح، وهو اتقاء الفتنة، وعندما يتحقق السلم والاستقرار، وبعد أن ينتهوا عن العدوان فإن القتال محرم باللفظ الصريح.
العفو والصفح قيمتان يلح عليهما القرآن الكريم، وفي الحياة الإنسانية القائمة على التعدد والاختلاف متسع -وأي متسع- للتعايش السلمي في إطار من التسامح وقبول الآخر:
«وَإِنْ أَحَدٌ مِّنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّىٰ يَسْمَعَ كَلَامَ اللَّهِ ثُمَّ أَبْلِغْهُ مَأْمَنَهُ، ذَٰلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَّا يَعْلَمُونَ، كَيْفَ يَكُونُ لِلْمُشْرِكِينَ عَهْدٌ عِندَ اللَّهِ وَعِندَ رَسُولِهِ إِلَّا الَّذِينَ عَاهَدتُّمْ عِندَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ، فَمَا اسْتَقَامُوا لَكُمْ فَاسْتَقِيمُوا لَهُمْ، إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِين»َ. (التوبة: ٦ – ٧).
المشرك المستجير، طالما أنه بعيد عن إلحاق الأذى وصناعة الضرر، وطالما أنه ملتزم، لا يجوز أن يتعرض للأذى أو الترويع، والقرآن الكريم يدين كل أشكال العدوان والبغي.. ومن المهم هنا أن نتوقف –في إيجاز– لعرض مفهوم «الفتنة» التي يأمر القرآن الكريم باجتنابها والتصدي لها.
مفهوم الفتنة:
إن تتبع الاستخدام القرآني لمفردة «الفتنة» بحث شائق وممتع، والذي يعنينا هنا هو التأكيد على الموقف الرافض للكلمة وما يترتب عليها، ولعل في الاستعراض السريع لبعض الآيات ما يقود إلى حقيقة الفكرة التي تهدف إليها: (وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ وَأَخْرِجُوهُمْ مِنْ حَيْثُ أَخْرَجُوكُمْ، وَالْفِتْنَةُ أَشَدُّ مِنَ الْقَتْلِ، وَلَا تُقَاتِلُوهُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ حَتَّىٰ يُقَاتِلُوكُمْ فِيهِ، فَإِنْ قَاتَلُوكُمْ فَاقْتُلُوهُمْ، كَذَٰلِكَ جَزَاءُ الْكَافِرِين». «البقرة – ١٩١».
«وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّىٰ لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ لِلَّهِ، فَإِنِ انتَهَوْا فَلَا عُدْوَانَ إِلَّا عَلَى الظَّالِمِينَ». (البقرة – ١٩٣).
«يَسْأَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرَامِ قِتَالٍ فِيهِ، قُلْ قِتَالٌ فِيهِ كَبِيرٌ، وَصَدٌّ عَن سَبِيلِ اللَّهِ وَكُفْرٌ بِهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَإِخْرَاجُ أَهْلِهِ مِنْهُ أَكْبَرُ عِندَ اللَّهِ، وَالْفِتْنَةُ أَكْبَرُ مِنَ الْقَتْلِ، وَلَا يَزَالُونَ يُقَاتِلُونَكُمْ حَتَّىٰ يَرُدُّوكُمْ عَن دِينِكُمْ إِنِ اسْتَطَاعُوا، وَمَن يَرْتَدِ مِنكُمْ عَن دِينِهِ فَيَمُتْ وَهُوَ كَافِرٌ فَأُولَٰئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِى الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، وَأُولَٰئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ، هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ». (البقرة – ٢١٧).
«هُوَ الَّذِى أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ، فَأَمَّا الَّذِينَ فِى قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ، وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ، وَالرَّاسِخُونَ فِى الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا، وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُو الْأَلْبَابِ». (آل عمران – ٧).
«وَاتَّقُوا فِتْنَةً لَّا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنكُمْ خَاصَّة، وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ». (الأنفال – ٢٥).
«وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّىٰ لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ، فَإِنِ انتَهَوْا فَإِنَّ اللَّهَ بِمَا يَعْمَلُونَ بَصِيرٌ». (الأنفال – ٣٩).
«وَالَّذِينَ كَفَرُوا بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ، إِلَّا تَفْعَلُوهُ تَكُن فِتْنَةٌ فِى الْأَرْضِ وَفَسَادٌ كَبِيرٌ». (الأنفال – ٧٣).
المعنى الدلالي للكلمة يقود إلى القلق والاضطراب والتوتر والزيغ، وهذه المفردات جميعًا تعني غياب الاستقرار والسكينة والسلام والأمان، بمثل هذا المنطق، فإن الحرب في الإسلام لا تهدف إلى العدوان والتوسع والبطش، لكنها وسيلة لحماية الإنسان من القلق، وكل ما يحول بينه وبين الحق المشروع في الاختيار الحر لما يؤمن به ويعتقد فيه، وحرية الاعتقاد ومنع الفتنة هنا ليست مقصورة على المسلم، وإنما هي حق لكل إنسان كرمه الله ومنحه شرف الانتساب إلى بني آدم.
ليس أدل على الرغبة في التسامح والتعايش السلمي والحرص على تجنب العدوان من التوجيه الإلهي للرسول بالإعراض عن معارضيه، والترفع عن السقوط في مستنقع الابتذال الذي يمارسونه.
الأمر صريح واضح: «أُولَٰئِكَ الَّذِينَ يَعْلَمُ اللَّهُ مَا فِى قُلُوبِهِمْ فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وَعِظْهُمْ وَقُل لَّهُمْ فِى أَنفُسِهِمْ قَوْلًا بَلِيغًا». (النساء – ٦٣).
ما الذي يعنيه الإعراض هنا؟!. لا ينبغي للرسول أن ينخدع بالباطل الذي يروجون له ويدعون إليه، وعليه أن يمضي في طريقه القويم مع الاستمرار في وعظهم وإرشادهم ومحاولة استقطابهم والتأثير عليهم، لكن ذلك كله لا يعني تجاوزًا أو عدوانًا.
ويتأكد المعنى هنا حتى لو حاول بعضهم خداع الرسول ذاته: «وَيَقُولُونَ طَاعَةٌ فَإِذَا بَرَزُوا مِنْ عِندِكَ بَيَّتَ طَائِفَةٌ مِّنْهُمْ غَيْرَ الَّذِى تَقُولُ، وَاللَّهُ يَكْتُبُ مَا يُبَيِّتُونَ، فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ، وَكَفَىٰ بِاللَّهِ وَكِيلًا». (النساء – ٨١).
الإعراض والتوكل على الله بإحالة الأمر إليه، فليس مطلوبًا من الرسول أن يهديهم بالقوة: «إنك لا تهدي من أحببت».
الاختلاف قائم بين الرسول –عليه الصلاة السلام– وبين من يخوضون في آيات الله، لكن التوجيه الإلهي حاسم، نهى عن العنف والتوجيه بالمسالمة: «وَإِذَا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِى آيَاتِنَا فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ حَتَّىٰ يَخُوضُوا فِى حَدِيثٍ غَيْرِهِ، وَإِمَّا يُنسِيَنَّكَ الشَّيْطَانُ فَلَا تَقْعُدْ بَعْدَ الذِّكْرَىٰ مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ». (الأنعام – ٦٨).
وفي ذات السورة آية تؤكد المعنى نفسه وترسخه: «اتَّبِعْ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ، لَا إِلَٰهَ إِلَّا هُوَ، وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ». (الأنعام – ١٠٦).
عبدالرحيم علي يكتب..
ويعلق الشيخ محمد الغزالي على الآية قائلا: هذه الآيات من ألمع الأدلة على احترام الإسلام لحرية الإرادة، وبنائه الإيمان على الاقتناع المجرد(٢).
المهم أن تقدم الدعوة مقرونة ببراهينها التي تجعلها بصائر للناس، وأن تستثير العلم الفطري المركوز في الطبائع حتى يكون عونًا لك، وأن تكون صورة متقنة لما تدعو إليه أو لما أوحى إليك، إن إعراضك عن المبطل يتركه في وحشة نفسية مقلقة، قد تكون باعثة بعدئذ على تصديقك.
ولست مكلفًا بحمل الناس على اليقين بالقوة ملكتها أو لم تملكها، فلا وزن لإيمان من هذا النوع.
ويستمر التوجيه القرآني في الدائرة نفسها: «خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ». (الأعراف – ١٩٩).
«الإعراض» أمر إلهي يتكرر في كثير من الآيات، وفي آيات أخرى تظهر مفردة «ذر» للتعبير عن المعنى نفسه: «وَذَرِ الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَهُمْ لَعِبًا وَلَهْوًا وَغَرَّتْهُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا، وَذَكِّرْ بِهِ أَن تُبْسَلَ نَفْسٌ بِمَا كَسَبَتْ لَيْسَ لَهَا مِن دُونِ اللَّهِ وَلِيٌّ وَلَا شَفِيعٌ وَإِن تَعْدِلْ كُلَّ عَدْلٍ لَّا يُؤْخَذْ مِنْهَا، أُولَٰئِكَ الَّذِينَ أُبْسِلُوا بِمَا كَسَبُوا، لَهُمْ شَرَابٌ مِّنْ حَمِيمٍ وَعَذَابٌ أَلِيمٌ بِمَا كَانُوا يَكْفُرُونَ». (الأنعام – ٧٠).
«وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ إِذْ قَالُوا مَا أَنزَلَ اللَّهُ عَلَىٰ بَشَرٍ مِّن شَيْءٍ، قُلْ مَنْ أَنزَلَ الْكِتَابَ الَّذِى جَاءَ بِهِ مُوسَىٰ نُورًا وَهُدًى لِّلنَّاسِ، تَجْعَلُونَهُ قَرَاطِيسَ تُبْدُونَهَا وَتُخْفُونَ كَثِيرًا، وَعُلِّمْتُم مَّا لَمْ تَعْلَمُوا أَنتُمْ وَلَا آبَاؤُكُمْ، قُلِ اللَّهُ، ثُمَّ ذَرْهُمْ فِى خَوْضِهِمْ يَلْعَبُونَ». (الأنعام – ٩١).
«وَلِلَّهِ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَىٰ فَادْعُوهُ بِهَا، وَذَرُوا الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِى أَسْمَائِهِ، سَيُجْزَوْنَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ». (الأعراف - ١٨٠).
«فَذَرْهُمْ فِى غَمْرَتِهِمْ حَتَّىٰ حِينٍ». (المؤمنون – ٥٤).
«فَذَرْهُمْ يَخُوضُوا وَيَلْعَبُوا حَتَّىٰ يُلَاقُوا يَوْمَهُمُ الَّذِى يُوعَدُونَ». (الزخرف – ٨٣).
«فَذَرْهُمْ حَتَّىٰ يُلَاقُوا يَوْمَهُمُ الَّذِى فِيهِ يُصْعَقُونَ». (الطور – ٤٥).
«فَذَرْنِى وَمَن يُكَذِّبُ بِهَٰذَا الْحَدِيثِ، سَنَسْتَدْرِجُهُم مِّنْ حَيْثُ لَا يَعْلَمُونَ». (القلم – ٤٤).
«فذرهم يخوضوا ويلعبوا حتى يلاقوا يومهم الذى يوعدون». (المعارج – ٤٢).
«وذرنى والمكذبين أولى النعمة ومهلهم قليلا». (المزمل – ١١).
«ذرنى ومن خلقت وحيدا». (المدثر – ١١).
كل هذه الآيات، المدنية منها والمكية تأمر الرسول عليه الصلاة السلام وتوجهه بترك أمر الذين لا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر لله يوم يجمع الناس جميعًا فلا يدع منهم أحدًا، لا عقاب دنيوي ولا حجر على رأي مهما كان نوعه أو حجم المجاهرة به أو عدد الداعين إليه.
حدود وظيفة الرسول عليه الصلاة السلام:
القرآن الكريم يحدد للرسول عليه الصلاة السلام إطارًا يؤدي من خلاله وظيفة الدعوة والبلاغ، كما أنه يحدد الأسلوب الأمثل لأداء هذه الوظيفة.
يقول تعالى: «ما على الرسول إلا البلاغ والله يعلم ما تبدون وما تكتمون». (المائدة:٩٩).
إنه البلاغ الذي يخلو من شبهة الإكراه، فكل امرئ متروك لضميره، وله أن يسلم أو يستمر في كفره.
المعنى نفسه في سورة «العنكبوت»: «وَإِن تُكَذِّبُوا فَقَدْ كَذَّبَ أُمَمٌ مِّن قَبْلِكُمْ، وَمَا عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ». (العنكبوت:١٨).
الرسول عليه الصلاة السلام مطالب بالبلاغ، وهو –بالنص القرآنى– ليس حفيظًا أو وكيلا، فهو مبلغ دون أن يكون ملزمًا بالهداية، بل إن هذا البلاغ محدد وفق قواعد لا يغفل عنها القرآن: «فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ، وَلَا يَسْتَخِفَّنَّكَ الَّذِينَ لَا يُوقِنُونَ». (الروم:٦٠).
«فَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ وَلَا تَكُن كَصَاحِبِ الْحُوتِ إِذْ نَادَىٰ وَهُوَ مَكْظُومٌ». (القلم:٤٨).
«وَاصْبِرْ عَلَىٰ مَا يَقُولُونَ وَاهْجُرْهُمْ هَجْرًا جَمِيلًا». (المزمل:١٠).
«فَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ وَلَا تُطِعْ مِنْهُمْ آثِمًا أَوْ كَفُورًا». (الإنسان:٢٤).
الصبر هنا سلوك حضاري يمثل أرقى درجات التحضر، وهو مقدمة لا بد منها قبل أن يصل التوجيه القرآني إلى ذروته الشامخة: «وَلَا تَسْتَوِى الْحَسَنَةُ وَلَا السَّيِّئَةُ، ادْفَعْ بِالَّتِى هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِى بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ». (فصلت:٣٤).
الهوامش:
١. أحمد صبحي منصور: حرية الرأي بين الإسلام والمسلمين ٥٤.
٢. محمد الغزالي: جهاد الدعوة بين عجز الداخل وكيد الخارج ٢٩.